خمسة وثمانون عاما، قضتها بنت الشاطئ فى محراب العلم والفكر وبلاط صاحبة الجلالة (1913 - 1998).. كانت الدكتورة عائشة عبد الرحمن، ثانية اثنتين تكتبان فى الأهرام بعد مى زيادة، وهى لم تتخط العشرين من عمرها بعد، وظلت تكتب حتى وفاتها ليتم منحها لقب «أم الأهرام»، وصفها الأستاذ هيكل بأنها «الوجه الإسلامى لمصر»، وقال عنها محمد سليم العوا: إنها «أبلت فى خدمة الدين، والقرآن والحديث، واللغة العربية، بلاء كتيبة كاملة من علماء الدين؛ بل بلاء جيل بأسره، نهضت فيه ـ مع الأفذاذ النوابغ من أساطين العلم- بمهمة حراسة الملة الحنيفية السمحة».
موضوعات مقترحة
فى حياة بنت الشاطئ، كما اشتهرت بهذا الاسم فى كتاباتها، كان لها عشقان: عشق للشيخ وعشق للعلم، فبدأ عشقها للعلم منذ مولدها الأول عام 1913 فى مدينة دمياط، وأما عشقها للشيخ وهو زوجها الشيخ والأديب والعالم، أمين الخولى، فبدأ مع مولدها الثانى فى 6 نوفمبر عام 1936، وصار هذان العشقان يسيران فى خطين متوازيين لا يفترقان أبدا ولا يطغى أحدهما على الآخر، ليعيشا معا 20 عاما حتى وفاته 1966، وتعيش هى معه حتى وفاتها فى الأول من ديسمبر عام 1998.
فى عام وفاته 1966 سجلت د. عائشة عبد الرحمن سيرة ذاتية بديعة، روت فيها النشأة والتحديات، حتى وصلت إلى اللقاء الأول الذى جمعهما وتصادف أن يكون يوم السادس من نوفمبر، وهو نفس يوم مولدها، فكتبت تقول» «منذ ذلك اللقاء الأول، ارتَبطتُ به نفسيّا وعقليّا، وكأنى قَطعتُ العمر كله أبحث عنه فى متاهة الدنيا وخِضَم المجهول، ثم بمجرد أن لقيته لم أشغَل بالى بظروف وعوائق، قد تَحول دون قربى منه، فما كان يعنينى قط سوى أنى لَقيته، وما عدا ذلك، ليس بذى بال».
فى تلك السيرة الذاتية «على الجسر بين الموت والحياة»، التى كانت أشبه بخواطر أدبية كتبت بماء الشعر، تصف تلك العلاقة بينها وبين زوجها قائلة: « تجلت فينا وبنا آية الله الكبرى الذى خلقنا من نفس واحدة، فكنا الواحد الذى لا يتعدد، والفرد الذى لا يتجزأ، وكانت قصتنا أسطورة الزمان، لم تسمع الدنيا بمثلها من قبل، وهيهات أن تتكرر إلى آخر الدهر!».
وفى زواجها بالشيخ أمين الخولى، رضيت بأن تكون الزوجة الثانية، فقد كانت متعلقة به أشد التعلق، وقد زادت فى وصف بدايات التعارف بينهما. فقالت: «كنت ألمحه خلال العام الأول لى بكلية الآداب، بين الحين والحين فى ردهات الكلية بزيه اللافت، وسمته المهيب، وملامحه المتفردة، يحف به دائما عدد من تلاميذه شبه مسحورين، وقد أخذوا فى حوار متصل معه، ولم أكن أتصور بحال أن هذا الأستاذ غريب عنى، وأظل أفكر طويلا أين ومتى يا ترى لقيته من قبل؟ .
وفى كتابه «أجمل قصص الحب من الشرق والغرب»، يروى رجاء النقاش قصتهما فيقول: «وهذا الحب كان سببا للثورة على بنت الشاطئ، ومن أجله تحملت الكثير من النقد القاسى والمقاطعة التى أصر عليها بعض المقربين منها. وقد تعرضت لضغوطات كثيرة للتخلى عن حبها، ولكنها تمسكت بهذا الحب خاصة بعد أن بادلها أستاذها حبا بحب».
على أن تلك العلاقة بين الأفذاذ والعالمين الجليلين، التى توجت بالزواج، تركت لنا ميراثا كبيرا من ذخائر العلم والتراث، فالشيخ أمين الخولى، كان أستاذا فى كلية الآداب بجامعة القاهرة، وعلما من أعلام الفكر والثقافة فى مصر وقتئذ، وصاحب الصالون الأدبى والفكرى الشهير بـ «مدرسة الأمناء».
بينما كانت للدكتورة عائشة، بصمات لا تنسى فى الدراسات الفقهية والإسلامية، الأدبية، والتاريخية، ولها نحو 40 كتابا، كما خاضت معارك فكرية وأدبية شهيرة مع العقاد، عن رؤيته الحادة والقاسية بشأن المرأة، ومع الدكتور مصطفى محمود، ضد التفسير العصرى للقرآن الكريم. وفى كتابه «ثلاث نساء من مصر»، يعود رجاء النقاش، للحديث عن الدكتورة عائشة عبد الرحمن، مع اثنتين أخريين هما أمينة السعيد وتحية حليم، فيقول عنها: أول امرأة عربية تتولى تدريس «التفسير القرآني» فى أكبر الجامعات الإسلامية. ظلت طوال حياتها فى كفاح من أجل العلم، وكانت تكتب فى الصحف أثناء دراستها فى الجامعة تحت اسم «بنت الشاطئ»، وذلك بسبب بيئتها المحافظة. لاحقا، عينها أنطون الجميل رئيس تحرير «الأهرام» محررة بالصحيفة، وظلت تكتب على صفحاتها حتى وفاتها.
نقلا عن صحيفة الأهرام