نولد ثم نمضى قدما على دروب الحياة .. نحب السفر .. متعة التنقل ..ولذة التغيير ..وجمال الحركة، ننتقل من مكان إلى مكان، ومن كتاب إلى آخر، ومن مفكر إلى أديب إلى موسيقار إلى كاهن إلى راهب إلى قسيس إلى شيخ إلى إمام، وإذا كنا نقلب الكتب بأصابعنا فإن كتاب الحياة نقلبه بأقدامنا أو بأعيننا، وقد علمنا الفيلسوف أرسطو أن الدهشة هى بداية المعرفة ، فعلينا أن نستمر فى دهشتنا لأن المعرفة لانهاية لها!
قديما سئل
الشاعر الألمانى جيته : ما هو الكتاب الذى أثر فى حياتك؟.. فهز رأسه بأنه لم يفهم. فأعيد السؤال: ما هو الشخص الذى هز حياتك؟ .. فهز رأسه كأنه يرفض السؤال. فقيل له: ما هى البلدة التى أثر أدباؤها ومفكروها فى حياتك! ولم يهز رأسه كأنه لم يسمع شيئا. فقيل له: إذن ما هو الشيء أو الأشياء فى الأدب والموسيقى والتاريخ التى تركت أثرًا فى حياتك .. وليس من الضرورى أن يكون عميقًا؟ فاعتدل الشاعر وأسند ظهره إلى الحائط، فمن عادته أن يكتب واقفا لأوجاع فى قولونه الغليظ وقال: أفضل أن أجيب عن هذا السؤال كتابة!
وكتب جيته يقول : كما أن أحدا لا يعرف نوعية الطعام والشراب الذى يجعل أظافرك قوية وعينيك لامعة، فإن أحدا لا يعرف بالضبط ما الذى أثر فيك أدبيًا وفلسفيًا!
بينما أكد الأديب الفرنسى مالرو أن الموسيقار لا يتعلم الموسيقى من خرير المياه .. وإنما من موسيفى الآخرين، والرسام لا يتعلم الرسم من غروب الشمس وشروقها، وإنما من لوحات الفنانين الآخرين، والأديب لا يتعلم مما يسمعه من قصص وحكايات، ولكن من الذى يقرؤه للأدباء الآخرين!
وهذا يعنى أن
العبقرية ليست ذاتية الصنع إنما هى حصيلة
مقويات إنسانية وفيتامينات ابداعية قد يحرص البعض على تناولها بشكل سليم وصحى، بينما يتجاهلها البعض الآخر، أنت محبوب لأنك تمتلك حصيلة من محبة الكثير، وأنت قوى بعلمك وعملك ومحيطك الاجتماعى، فعلى الرغم من ثروة
الرئيس الأمريكى ترامب الهائلة الا أنه فشل فى فرض محبته على الشعب، ورغم أن البعض يعتبر فى المال قوة إلا أننا بهذه الحسبة نؤكد ضعف المال أما التوجهات الفكرية والإيمان بأيديولوجيات معينة.
ورغم كل هذا نلقى باللوم على الأجيال الراهنة ونتهمهم بالسطحية وكيف كنا أكثر أخلاقا منهم وأرقى فى التذوق الفنى وخلافه، والحقيقة أنهم ضحايا ونحن .. نعم نحن الجناة!
هل اصطحبت أسرتك لحضور حفلات موسيقية فى
دار الأوبرا مثلا ؟ هل رافقتهم صغارًا لحضور معرض فن تشكيلى؟ هل اشتريت لهم كتبًا وعلمتهم كيف يستمعون إليك ثم كيف يدمنون
القراءة لتتولد لديهم مهارة السباحة لمسافات طويلة فى أعماق الكتب!
هل دربتهم على الانتقاء والاختيار من بين متعدد وكيف لهم أن يختاروا الأنسب وليس الأفضل، فالأفضلية لا حدود لها ... اذا كانت إجابتك بالنفى فعليك أن تقدم لهم اعتذارا فى التهم التى ألصقتها بهم بعد أن تركتهم فريسة سهلة للفن الهابط والذوق الفج والثقافات المترهلة.
* نقلًا عن صحيفة الأهرام