لثلث ساعة تقريبا، وقف شاب مسلم يبدو من أصول باكستانية في ميدان بقلب لندن يدافع عن القرآن الكريم وسط رهط من الجمهور البريطاني، ويجيب عن سؤال خطير للغاية: أليس قتل غير المؤمنين مذكورا في الكتاب؟
فأخرج الشاب المسلم نسخة من القرآن مترجمة إلى الإنجليزية: هاهو القرآن وأنت تتدعي أنه يأمر بالقتل، أين دليلك؟
لم يمد الشاب السائل يده: أتقول إن الكتاب لا يقول ذلك؟، لماذا يقتلوننا إذن؟، لماذا يفجروننا ويطعنونا ويدهسوننا؟، لماذا تضع السلطات 20 ألف مسلم في قائمة المراقبة؟
اجتهد الشاب المسلم في بيان خلو القرآن تماما من أي دعوة للقتل أو الدهس أو الطعن، لكن السائل المتنمر غادر الحوار وهو يقول: لكنهم يفعلون ذلك وهم يصرخون الله أكبر..إنهم يقتبسون القرآن ويفجرون 12 طفلا وستدافع عنهم أيضا. هذا ما شهدته في فيديو على اليوتيوب عنوانه بالإنجليزية أسال مسلما، انتشر على شبكات التواصل الاجتماعي، لنفي أي علاقة بين الإسلام والعمليات الإرهابية التي ارتكبت مؤخرا، سواء ذبح أستاذ تاريخ في باريس أو الاعتداء بآلة حادة على رواد كنيسة في نيس، أو إطلاق الرصاص عشوائيا بالقرب من معبد في ڤيينا، ليسقط 4 قتلي و22 مصابا.
والسؤال: كيف يمكن أن نقنع العالم ببراءة الإسلام من هذه الأعمال الإجرامية.؟
وصف شيخ الأزهر على صفحته الرسمية بالفيسبوك ما جري بأنه إرهاب وقال: تألمت كثيرا من جراء الحادث الإرهابي الذي وقع وسط العاصمة فيينا، فاجعة حولت هذا المكان الهادئ الآمن إلى ساحة لإراقة الدماء وبث الذعر والخوف، أتعاطف مع الضحايا وأسرهم، وجميع ضحايا الإرهاب في العالم، وأدعو لتوحيد الجهود الدولية في مكافحة الإرهاب والتطرف وخطاب الكراهية.؟
وقولا قاطعا لا يوجد نص في القرآن يدعو للقتل، على العكس تماما يؤكد القرآن مفهوما عاما حاكما إن الله لا يحب المعتدين، وكل أوامر القتال الواردة في 25 آيه فقط، من ستة آلاف و236 آية هي كل القرآن، مشروطة برد العدوان وليس بشن عدوان، ودائما ما تنتهى بالحث على العفو والتسامح والكف عن القتال فورا، إذا توقف العدوان على المؤمنين.
لكن يظل السؤال: إذن لماذا يتحول بعض المسلمين إلى قنابل بشرية تنفجر في الأبرياء وتفتتهم أشلاء كما لو أن تدينهم هو الفتيل أو أداة التفجير؟ هو فهم خاص بجماعات شاردة من المسلمين تبنت العنف والعدوان بالمخالفة لدينها، وفق تفسيرات واردة في كتب التراث، تفسيرات أنتجت في ظروف فتنة وحروب وعدوان، وكان يجب إلا تتجاوزها، لكن عشرات الآلاف في تنظيمات دينية مسلحة من مليار و800 مليون مسلم على كوكب الأرض مازالوا متمسكين بتلك التفسيرات. والسؤال المهم الآخر: كيف عاش مسلمون في الغرب وتعلموا فيه ولم يستطيعوا أن يتجاوزوا ثقافتهم الأولي وبداوة تفكيرهم؟ أتصور أنها أزمة عقل وتخلف ثقافي. والتخلف ليس فقط نقص في المعرفة والقيم والعقل السليم، التخلف نوع من القبح، والقبح هو أصل العنف، قبح النفوس يهبط بها إلى قاع الغريزة ويسلب منها قدرة العقل على التفكير والاستنباط، وحين يتراجع العقل تتحكم الغريزة، والكائنات بغريزتها تميل للعنف لإثبات الذات والدفاع عن حياتها.
يا للغرابة.. كيف لبشر دينهم جوهره اقرأ وتَدَبر وتَعَقَّل في الكون فهذه أدواتك وصولا إلى الله، تظل غرائزهم هي التي لها الغلبة في تصرفاتهم حين يغضبون ويكرهون؟
هذه أزمة بعض التجمعات الإسلامية في الغرب.. إنه جيتو مسلمين بديلا عن الجيتو اليهودي التقليدي الشائع في تاريخ البشرية، العزلة التامة عن البيئة التي يعيشون فيها، واستدعاء البيئة التي هاجروا منها، ليتشرنقوا داخلها، أي يتواجدون على أرض بريطانيا أو فرنسا أو بلجيكا أو إسبانيا أو ألمانيا، لكنهم يعيشون بعقول مستمدة من صحراوات الشرق الأوسط وتقاليدها ومفاهيمها الدينية، يلبسون من الخارج ثيابا عصرية، لكنهم غارقون حتى الثمالة في أفكار قديمة ومفاهيم قديمة.
بالطبع لا ندعوهم أن يخلعوا ثقافتهم وتراثهم الإنساني الخاص بهم، وأن يلبسوا بدلا منها ثقافة المجتمعات الغربية وأخلاقها، فالشرقيون لهم تقاليدهم وقيمهم، ومن حقوقهم اجتناب بعض الأخلاق الاجتماعية الغربية التي لا تتفق والدين الإسلامي، لكن الغربيين أيضا يملكون قيما عظيمة جدا في الحياة والعمل ناتجة عن تطورهم الاقتصادي والعلمي لأكثر من أربعة قرون، ويمكن أن يلتزم بها المهاجرون المسلمون، لاسيما أن جوهرها يتطابق وتعاليم الإسلام، مثل قيم العمل الجاد والاتقان والمثابرة والحفاظ على النظام والنظافة العامة واحترام الوقت والتعاون مع الآخر بإخلاص أيا كان لونه أو ديانته..الخ. لكن كثرة من المهاجرين المسلمين لم ينجحوا في صناعة هذا المزيج، وأتصور أن رجال الدين لم يساعدوهم على هذا المزج الحضاري، وعملوا دائما على الفصل الحاد بين الثقافتين، بإغراقهم في كتب التراث القديمة، فزعا من أن تهزمهم الثقافة الغربية، وتزيح ثقافتهم الأصلية إزاحة تامة، فانتهى الحال بالمسلمين المهاجرين إلى صناعة الجيتو الجديد.. نعم ..لم يعد اليهود يعيشون في جيتو منذ سطوهم المسلح على أرض فلسطين، وحل محلهم مسلمون في كل بقاع الدنيا. وياليتهم صنعوا جيتو على غرار الجيتو اليهودي، فاليهود تاجروا وتعلموا وتداخلوا وتسللوا إلى مراكز المعرفة والثقافة والفنون، ومراكز صناعة القرار، يدرسون ويفهمون ويستوعبون، ثم استخدموا هذه المعارف في التوغل ومد النفوذ، عاشوا مثلما يعيش أهل البيئة التي هم فيها، وأيضا حافظوا على تقاليدهم وقيمهم، لكن كثرة من المسلمين المهاجرين نفوا أنفسهم داخل هذه المجتمعات، خلف جدار عازل بنوه بينهم وبين البيئة الجديدة، نفي عام وشامل حتى لو تعلموا في مدارسها وجامعاتها، فهو تعليم تحصيلي، يتحول فيه العقل إلى مخزن بيانات، مثل مخزن الكراكيب، والبيانات مجرد مادة خام تتجمع وتصبح معلومات، ثم تتراكم إلى معرفة، ولا قيمة كبرى لها إلا باستخدامها في الحياة، في العلاقات الاجتماعية والوظيفية والحياتية والحرفية والثقافية..وكل شيء. جيتو اليهود مجرد معسكر معزول لكنه جزء من مجتمعه.. جيتو المسلمين معسكر نفى بالإرادة.. وفي معسكرات النفي يسهل صناعة القتلة والقنابل البشرية، ولا حل إلا بالخروج منها.
نقلا عن: صحيفة الأهرام