ما تابعناه من فصول ومشاهد غريبة للفوضى الانتخابية بالولايات المتحدة بين المرشحين دونالد ترامب وجو بايدن، ليس سوى الاختبار الأصغر لأمريكا، تمهيدًا لخوضها اختبارًا أكبر وأصعب بمراحل، عقب إعلان فوز الديمقراطي بايدن بالانتخابات الرئاسية التاريخية.
فما إن يفرغ ساكن البيت الأبيض الجديد للسنوات الأربع القادمة من مظاهر الاحتفال والابتهاج بفوزه القاطع على غريمه، سيتعين عليه الشروع الفوري في فحص الملفات الشائكة والخطيرة المكدسة على مكتبه، وسيرسم أسلوب تعاطيه ومعالجته لها ليس فقط الخطوط العريضة لمستقبله ومكانته التاريخية، وإنما أيضًا مستقبل أمريكا كقوة عظمى.
وسيجد الرئيس الأمريكي الــ 46 أنه لا يملك رفاهية إضاعة الوقت والتمسك بمهلة الـ 100 يوم المتعارف عليها قبل البدء في محاسبته وانتقاده، فالمواطن الأمريكي ينتظر منه بفارغ الصبر الإسراع ببدء أضخم عملية ترميم سياسي يمكننا تصورها.
فمن بين أخطر مخلفات الانتخابات الرئاسية 2020 أنها أحدثت انقسامًا رهيبًا وهوة سحيقة بـالجبهة الداخلية، بسبب المشاحنات والمهاترات خلال الفترات السابقة لإجرائها وإثر انتهائها وفرز أصوات ملايين الناخبين، وانقلب الوضع من الخلافات الطبيعية المتوقعة وتباين الرؤى السياسية بين أنصار المتنافسين على المقعد الرئاسي إلى حملات تخويف وترهيب محكمة، واستخدام للعنف ضد الخصوم.
وسادت حالة مفزعة من القلق والتوتر مما سيأتي، وقام أرباب الأعمال والمحال التجارية بحماية ممتلكاتهم بواسطة إغلاق الواجهات بالأخشاب، خوفًا من حدوث مواجهات ومصادمات بين مؤيدي ترامب وبايدن، بعد إعلان النتائج.
وأشارت إحصائيات نشرتها صحيفة "لوس أنجلوس تايمز" الأمريكية الشهر الماضي إلى أنه تم بيع 17 مليون قطعة سلاح بأنحاء البلاد في الأشهر الماضية، وبالاستقصاء عن الأسباب الكامنة خلف بيع هذا العدد المهول من الأسلحة أرجعها المواطنون الأمريكيون إلى خشيتهم من عدم الاستقرار الاجتماعي والعنف السياسي المتوقع من قبل التيارين اليساري واليميني بالفترة المقبلة.
ومعلوم للكافة أن ترامب طوال سنوات رئاسته أجج بردود أفعاله غير المتوقعة النزعة العنصرية ودعوات التفوق العرقي، وهاجم اللاجئين وطالب بطردهم وإعادتهم لبلادهم، مما تسبب في قلاقل واضطرابات سيعانى المجتمع الأمريكي المنقسم بشدة على نفسه من ويلاتها وتبعاتها حتى حين، ويلزم لتطويق آثارها ومخاطرها بذل جهد فائق وعاجل من إدارة بايدن ومكونات المجتمع بكل أطيافه.
هذه المهمة الملحة يتصل بها ترميم النموذج الأمريكي الذي لحقت به أضرار لا تعد ولا تحصي، فالديمقراطية، التاج الذي يتزين به رأس أمريكا، وتفاخر به بقية الأمم وتضغط للاحتذاء بها، وتسعى بكل السبل لتصديرها للخارج، تعرضت لهزة عنيفة غير مسبوقة في حجمها وأبعادها.
فقد تعمد ترامب وضع العملية الديمقراطية الأمريكية بدائرة الشك والافتقار للنزاهة والمصداقية والكفاءة، وترددت على مسامعنا اتهامات غير مألوفة بالمشهد الانتخابي الأمريكي من عينة التزوير وتصويت الأموات، والتلاعب بالصناديق، واختفاء بطاقات انتخابية لمصلحة أحد المرشحين، وغياب الشفافية والنزاهة.
ثم زاد علي ذلك تهديد ترامب بعدم الاعتراف بالنتيجة إذا كانت خروجه مهزومًا، وأنه سيرفض مغادرة البيت الأبيض، وسيحتكم لأعلى سلطة قضائية لتأكيد أنه الفائز الحقيقي بالرئاسة وليس غريمه، وترجمة ما سبق ببساطة متناهية، هو التخلي عن قاعدة التداول السلمي للسلطة التي تعد عنصرًا إلزاميًا لأي نظام يطبق المبادئ والقواعد الصحيحة للديمقراطية ويحرص عليها.
وانتشر رسم كاريكاتيرى ساخر يجسد تمثال الحرية الشهير مختبئا خلف قاعدته ويسأل: "مشي ولا لسه" في إشارة بالطبع لترامب الذي يعتبره متابعون ومحللون سياسيون أمريكيون وغربيون أنه أضر كثيرًا بالتجربة الديمقراطية الأمريكية التي أوصلته لسدة الرئاسة ولم يقدرها التقدير المستحق، وأن المسئول أيا كان موقعه عليه تقديم المصلحة العامة على ما سواها.
العطب الذي لحق بالنموذج الديمقراطي الأمريكي يجيز للجميع التساؤل عما إذا كان فاقد الشيء قادرًا على منحه؟ بمعنى هل سيكون مقبولًا في اللقاءات والمحادثات المستقبلية بين المسئولين الأمريكيين ونظرائهم من الدول الأخرى الإنصات للجانب الأمريكي يعظ ويشدد ويضغط على الأطراف المشاركة بغية ترسيخ وتطبيق الديمقراطية والرضوخ لما تحدده، حينئذ سيدرك الأمريكيون أن استرداد ثقة مواطنيهم أولا والشعوب الأخرى في نظامهم الديمقراطي والسياسي ستكون مهمة شاقة وعسيرة.
وليت هموم الساكن الجديد للبيت الأبيض ستتوقف عند ذلك الحد، لكنها ستتسع لتشمل استعادة هيبة ووقار المقام الرئاسي والعمل المؤسسي ولغة الخطاب الرسمي اللائقة.
ترامب كانت له طريقته الخاصة في إدارة شئون الحكم والأزمات، ومرات عديدة كان يقوم بذلك بعيدًا عن الجهات المختصة ودون التشاور المسبق معها، وجاهر بالعداء السافر لوسائل إعلامية بعينها ولمسئولين كبار يشغلون مناصب حساسة في دولاب عمل الدولة، مثل نانسي بيلوسي رئيسة مجلس النواب، وجرت بينهما ملاسنات كانت مثار اندهاش الداخل والخارج، وتوالت استقالات مساعديه القريبين لاختلافهم معه في أساليبه لدى اتخاذ القرار.
فضلا عن إقالته المسئولين بتغريدة يكتبها على موقع التدوينات القصيرة "تويتر"، والاستخفاف بفيروس كورونا، مما أدى لاستشرائه في البلاد بصورة مفزعة بتجاوز المصابين به ٩ ملايين أمريكي، وعندما أصيب به ومعه عائلته غادر المستشفى بعد ساعات قليلة من دخوله لتحية مناصريه الواقفين أمامه!
ملف استعادة الأمن الصحي يتوقع أن يحتل أولوية متقدمة على أجندة عمل الرئيس المنتخب، متمثلا في إعداد خطة لوقف انتشار كورونا، ومساعدة المستشفيات والقطاع الطبي بكامله على التصدي للوباء قبل خروجه عن السيطرة أكثر من ذلك، وتدعيم وتطوير نظام التأمين الصحي، وكذلك التقليل من خسائر كورونا الاقتصادية وتوفير فرص عمل أكبر للحيلولة دون زيادة نسبة البطالة.
النتيجة الطبيعية لطريقة ترامب في الحكم كانت مزيدًا من الخلل والارتباك في علاقة البيت الأبيض بمؤسسات الدولة والقضاء والإعلام ودوائر المال والاقتصاد وتباعد المسافات فيما بينها، وسيتحتم ترميم تلك العلاقة وإعادتها للمناخ الصحي المفترض والمفضل أن تكون عليه لتحقيق المصلحة العامة.
نجاح بايدن في سد الثغرات ورأب الصدع ومعالجة الملفات السابقة وغيرها مما لا يتسع المجال لذكره سيتوقف عليه وبلا جدال استحقاق أمريكا الاحتفاظ بقيادتها للعالم وبقائها في مكان الصدارة من عدمه، وذاك سيكون حقًا اختبار أمريكا الأصعب والمصيري.