وصل اليخت لونا – ثاني أكبر يخوت العالم وأكثرها فخامة ورفاهية – إلى موقف اليخوت في ميامي جنوب فلوريدا صباح يوم 22 يناير 2017 وعلى متنه صاحبه وقتها رجل الأعمال الأذربيجاني - الروسي فرخاد أخمادوف الذي جاء إلى الولايات المتحدة بعد يومين فقط من تنصيب الرئيس الجديد دونالد ترامب عازما على تنفيذ المهمة التي كلفه بها الرئيس التركي رجب طيب أردوغان، وهي المهمة التي سيكون لها تأثير مدمر على كثير من شعوب الشرق الأوسط فيما بعد.
موضوعات مقترحة
وإذا أخذنا في الاعتبار أن أخمادوف ليس رجل أعمال عادي بل هو واحد من أعضاء نادي الأوليغاركية بمعناها الواسع حول العالم، ويعتبر واحدا من مجموعة منتقاة من الأوليغاركيين تربطه علاقة خاصة جدا بأردوغان، ما تكشف منها مؤخرا لا يمثل سوى قمة جبل الجليد وما خفي كان أعظم.
والأوليغاركية مصطلح يعني سيطرة مجموعة صغيرة من الأثرياء على مقدرات بلد من خلال الفساد وجماعات الضغط والتحكم في الاقتصاد والسياسة لتوسيع مناطق نفوذهم وزيادة ثرواتهم على حساب المواطنين ومصالحهم، ويعتبر المحللون السياسيون أن الأوليغاركية إحدى مفردات الفاشية أو الحكم الديكتاتوري القمعي.
فما الذي أتى بالأولغاركي أخمادوف ربيب أردوغان وبوتين إلى الولايات المتحدة في ذلك اليوم بالتحديد؟ ولماذا جاء على متن اليخت الذي ظل راسيا في ميامي لعدة أشهر؟ الإجابة جاءت في تقرير استقصائي طويل بعنوان "الأوليغاركس ووترجيت: كواليس علاقة ترامب الخاصة بتركيا"، نشره موقع Courthousenews وكشف بعضا من خيوط قصة الاتفاق بين تركيا والذي مثلها في ذلك الاجتماع الذي عقد يوم 19 يناير 2017 – أي قبل يوم واحد من حفل تنصيب دونالد ترامب رئيسا وثلاثة أيام من وصول أخمادوف لأمريكا – وزير الخارجية التركي شاووش أوغلو وبرايان بالارد الذي كان وقتها نائب رئيس حفل تنصيب ترامب.
كان حاضرا في ذلك الاجتماع أيضا الرجلان الذين رتبا له من الأصل وهما ليف بارناس – الرجل الذي كانت أعماله وتعاملاته في أوكرانيا أحد أسباب تعرض ترامب للمحاكمة البرلمانية التي كادت تنتهي بعزله – والثاني موباريزمانسيموف التركي-الأذربيجاني وهو قطب من أقطاب تجارة الشحن يقبع الآن في سجون أردوغان بتهمة الإرهاب، بعد أن انقلب عليه الرئيس التركي واتهمه بالتواصل مع فتح الله غولن.
ذلك الاجتماع الذي لم يتم الكشف عنه إلا في سبتمبر من العام الحالي من خلال ذلك التحقيق الاستقصائي كان هو حجر الزاوية في بناء تلك العلاقة القوية بين أردوغان ونظيره الأمريكي والتي يعتبرها البعض إحدى أنجح حملات الضغط من جانب حكومة أجنبية على البيت الأبيض، بينما تداعيات تلك العلاقة على دول مثل سوريا وليبيا ومصر والسعودية والإمارات، بل وباقي الشعوب العربية ومصالح شعوبها تحتاج لمؤلفات لحصرها.
فقد نتج عن هذا الاجتماع – وما تلاه من لقاءات أخرى شارك فيها ورتب لها أخمادوف على طائرته الخاصة ويخته الفاره - اتفاقين كل منهما قيمته عدة ملايين من الدولارات أبرمهما أردوغان الذي يصور نفسه في العلن كخليفة للمسلمين ومتحدثا باسمهم حول العالم، لكنه خلف الستائر الداكنة يقدم وجها آخر تماما.
هذا الوجه كشف عنه بارناس نفسه في سلسلة مقابلات قدم خلالها مستندات حصرية وصور وتذاكر طيران ومقاطع فيديو– إضافة إلى معلومات أخرى فضحت فصول القصة وكشفت عن تلك الشبكة الدولية التي يستخدمها أردوغان لمصلحته وتضم رجال أعمال وأوليغاركس – معظمهم ينتمون لجمهوريات سوفييتية سابقة أبرزها أذربيجان – وغالبيتهم الآن إما في السجون أو يواجهون تهما بالإرهاب وغسيل الأموال.
وكشف بارناس عن تباهي مانسيموف بعلاقته الشخصية القوية مع أردوغان وكيف أنه قدم هدية لعائلة الرئيس التركي عبارة عن ناقلة نفط سعرها 25 مليون دولار، وكيف أن أردوغان وبعض جماعته يستخدمون الطائرات الخاصة التي يمتلكها مانسيموف في أسفارهم أحيانا.
لكن رغم ما تم الكشف عنه حتى الآن تظل تفاصيل الأشهر التي قضاها أخمادوف في أمريكا غامضة في معظمها، تظهر فقط ملامح لها من خلال القليل الذي كشف عنه بارناس، فأخمادوف – شأنه في ذلك شأن مانسيموف – أوليغاركي من الطراز الأول ويتفاخر بقدرته على المساعدة في حل النزاعات الدولية، ونسب الفضل لنفسه في التدخل بين روسيا وتركيا في مرتين على الأقل، وفي مقابلة مع وكالة سبوتنيك الروسية عام 2016 وصف شاووش أوغلو وزير خارجية تركيا أخمادوف بأنه وسيط دبلوماسي قيم "يعمل بصورة لصيقة مع بوتين ويعرفه جيدا".
وبعد وصوله إلى فلوريدا، قام أخمادوف بدور مهم في تقوية العلاقة بين أردوغان وترامب، وخلال تلك الفترة انضم بارناس لأخمادوف على متن اليخت لونا، ويسترجع بارناس بعضا من تفاصيل تلك التسلية ضاحكا: "لم يكن وقتا سيئا طبعا. فاليخت يديره طاقم من 70 شخصا وأربع طهاة وكل ما يمكن تخيله من أنواع التسلية موجود".
أخمادوف يستضيف بارناس على متن اليخت الذي يحمل كل "أنواع التسلية"، فما هي التسلية التي قدمها بارناس نفسه لأخمادوف إذن؟
كشف بارناس عن رغبة أخمادوف وقتها في بدء علاقة جديدة مع بالارد، ثم قدم بالاردو بارناس أخمادوف إلى ستيف وين الملياردير صاحب كازينوهات القمار وأحد أبرز المساهمين في الحزب الجمهوري، ومن هنا انطلق أخمادوف لتنفيذ المهمة التي وصل إلى أمريكا من أجلها لصالح أردوغان والتفاصيل تظل متروكة لخيال القارئ بالطبع، فلم يقدم بانراس هنا سوى صورة من داخل كازينو القمار يتوسط فيها أخمادوف بارناس ووين.
كيف استفاد أردوغان وأخمادوف من تلك العلاقة؟
نظرة سريعة على ما قام به أردوغان في الشرق ألاوسط منذ وصول ترامب إلى البيت الأبيض تجيب باستفاضة عن هذا السؤال: ففي سوريا سحب ترامب قواته تاركا الأكراد الذي كانوا حجر الزاوية في محاربة تنظيم داعش وهزيمته في مواجهة قوات تركيا في شمال سوريا الذي تحتله تركيا بحجة حماية حدودها، رغم التقارير المتعددة عن سيطرة أسرة أردوغان على حركة النفط المهرب والبضائع عبر الحدود.
وفي ليبيا أصبحت البلاد مهددة بالتقسيم ويعاني غربها من الاحتلال التركي تحت زعم دعم حكومة الوفاق بينما خيرات البلاد أصبحت حكرا على أردوغان الذي يواصل دعم الجماعات المتطرفة واستخدامها سلاحا لزعزعة استقرار دول مثل مصر والسعودية والإمارات وتونس، كل هذا تحت ذريعة الدفاع عن المسلمين وحقوقهم وخيرات بلادهم التي يبدو أن أردوغان يعتبرها ملكية خاصة له.
أما أخمادوف فقد استفاد من علاقته مع أردوغان وبوتين أيضا لإخفاء ثروته بعد أن حكمت المحكمة في بريطانيا لصالح طليقته تاتيانا أخمادوف بنصف تلك الثروة فيما عرف بطلاق القرن، وكشفت تقارير إعلامية بريطانية مؤخرا عن ألاعيب بنوك عالمية لمساعدة أخمادوف على إخفاء ثروته وأصوله لحرمان طليقته من حقها الذي حكمت لها به المحكمة.
وكشفت شهادات أثناء المحاكمة عن الأساليب التي تتبعها تلك البنوك لمساعدة أخمادوف على إخفاء ثروته بعيدا عن سلطات الضرائب منذ سنوات طويلة.
وقبل أيام رفضت محكمة الاستئناف في دبي دعوى رفعها أخمادوف مطالبا طليقته بتعويض قدره 115 مليون دولار عن أضرار زعم أنها لحقت به بسبب احتجاز اليخت لونا في ميناء راشد منذ حكمت المحكمة في لندن بأحقية تاتيانا في ملكية اليخت قبل نحو عامين، زاعما في دعواه أن مبلغ التعويض عن الأضرار الذي يطالب به يساوي قيمة تأجير اليخت عن فترة احتجازه.
لكن الحقيقة التي كشفت عنها الصحف الإماراتية الصادرة بالانجليزية انه على الرغم من حصول تاتيانا على حق ملكية اليخت، تقدم أخمادوف إلى المحكمة الشرعية في دبي – كرجل مسلم – مطالبا إياها بالحكم له بملكية اليخت وهو ما حصل عليه بالفعل – لكن في ظل استمرار النزاع القضائي في محاكم بريطانيا ومحاكم دبي، لا يزال اليخت محتجزا في ميناء راشد بدبي، وبحسب الدفاع عن تاتيانا، فإن دعوى التعويض التي رفعها أخمادوف وتم رفضها بحكم نهائي بات من محكمة الاستئناف قبل أيام قد كشفت عن تناقض مزاعم أخمادوف.
فأمام المحكمة الشرعية زعم أن اليخت ملكية خاصة ولا يتم توظيفه لأي أغراض تجارية، أما أمام محكمة الاستئناف فقد طالب بالتعويض عن الأضرار التي لحقت به جراء حجز اليخت مما حرمه من 115 مليون دولار قيمة تأجيره في فترة الحجز، وهو ما يعني أن مزاعمه عن خصوصية ملكية اليخت غير صحيحة.
ومع استمرار التحقيقات في الولايات المتحدة بشأن قضية جماعات الضغط وفي القلب منها أخمادوف وأردوغان، واستمرار قضية طلاق القرن وملاحقة أصول أخمادوف المخفية، يظل الباب مفتوحا على مصراعيه لكشف المزيد عن تلك القصة التي تشبه في كثير من تفاصيلها أفلام جيمس بوند.