من حق الرئيس التركي أردوغان - بل من واجبه - أن يمد ذراعيه لتطال أوسع دائرة ممكنة في الإقليم، وهو لم يخفِ الغايات، وهي أنه لا ينبغي تجاهل تركيا، كما لم يحرص على مداراة الوسائل، وإن كانت لا تكترث بأي أحد أو أي تصورات عند البعض..
وكانت السياسة التوسعية للمثل الأعلى الذي أتبعه أردوغان، وهو نجم الدين أربكان، عندما تولى رئاسة الحكومة، تنتهج طريقًا ناعمًا، وقدمها الرجل للحكومات الإسلامية من حوله، معبأة كهدية، في صورة تجمع للدول الثماني الإسلامية الكبرى، ولم يقنع أحدًا، لأن نواياه كانت مفضوحة، والرغبة في الزعامة التركية طاحنة، ومغازلة تيارات الإسلام السياسي مؤكدة، ورغم ذلك لم يتوقف عن مشروعه، لولا تطورات داخلية تركية أطاحت به.
ولم يكن رجل بدهاء أردوغان يقع في نفس الفخ، فطور آليات أربكان، وبدأ في تسويق جديد، عابر للحكومات التي خاطبها أربكان، ومتوجهًا إلى جماعات بدت له صاحبة شعبية.. مثل جماعة الإخوان المسلمين في مصر وفروعها في العالم.. كما خاطب جماعات سياسية واقتصادية متنوعة.. في الوقت الذي قدم فيه بلاده وقواها الناعمة، من الفن إلى السياحة، ومن الاقتصاد إلى التدين، بصورة تصل بالرأي العام في البلاد المحيطة والقريبة مثل مصر، إلى قناعات بجدارة "النموذج التركي" بديلا لـ"النموذج الماليزي" البعيد نسبيًا..
هو أراد أن يبيع لهؤلاء منتجات تركية، وهي ليست سيئة والحق يقال، بدلا من مثيلتها الصينية، ويريد نشر المسلسلات التركية، كبديل في الخليج للأعمال الهندية، وفي مصر للمسلسلات الأمريكية أو غيرها، ونجح في ذلك، وبدأت السياحة تتدفق إلى تركيا والبضائع التركية تملأ الأسواق المصرية والفن التركي يصور الحياة البديعة على البسفور بأصوات سورية (الدبلجة الجاذبة).. لكن تأتي الرياح بما لا تشتهي السفن، فالربيع العربي الذي تصور أردوغان أنه وقود مشروعه الأسطوري، فشل فشلا ذريعا، لأن أصحابه سلموا، أو جرى خداعهم وهو الأدق، ثمرة ثوراتهم إلى الإخوان المسلمين.. كما لم ينجح حراك "الربيع" في كل الدول العربية والإسلامية في إيصال السلطة إلى الإخوان، رغم الأموال القطرية.. ربما في تونس في البداية، ثم في مصر، كما سُمع لهم صوت سرعان ما خفت في الأردن والمغرب وموريتانيا.. لكن الضربة القاصمة والرياح المعادية لتركيا وللإخوان جاءت من مصر التي عرف شعبها وجيشها كيف يقلب الطاولة المترعة بالخطط على الإخوان، ويزيحهم من سدة الحكم..
الفعل الثوري في مصر والذي تُوج بثورة 30 يونيو 2013 كان لابد له من عقاب فوري، فتح القنوات الفضائية المعادية، استضافة قيادات وهاربين، هجوم شرس على مصر في كل مناسبة، تظاهرات ساذجة، رصد لكل التطورات الاقتصادية والسياسية والعمل علي تعطيلها بكل السبل والوسائل.
وبنظرة فاحصة فإنه لا توجد دولة في العالم تقف لها نحو عشرة قنوات في قطر وتركيا بالمرصاد وبالباطل سوى مصر.. لا توجد دولة في أي مكان تحت المتابعة اليومية بهذا الشكل.. وانظر إلى حادث مروري، تطور في قوانين البناء، تشييد عاصمة جديدة، انتخابات الشيوخ، تعطل مترو لساعتين، احتجاج عشرة أشخاص، أو حتى مائة، لتجد برامج تحليلية، واستديوهات، وفتح اتصالات لأربع وعشرين ساعة.. بينما دول أخرى عربية أيضًا أو إسلامية، يتم فيها حل البرلمان، أو إقالة الوزارة، أو في طريقها للتطبيع مع إسرائيل، ومهددة بالضياع، ولا ترصد هذه القنوات لهذه الأحداث أكثر من خبر، أو شريط الأنباء، ومن دون قبح أو تزيد أو اتصالات للتحريض على العنف..
وبخلاف الدور الإعلامي التركي الراعي لقنوات تحريضية ضد مصر والحاضن لها بأموال قطرية، والمساعد لخبل شبكة "الجزيرة" فإن التحريض يتجاوز الإعلام إلى خطط التنمية في مصر.. حيث إن أنقرة بشكل مفاجئ تقرر البحث عن ترسيم حدود بحرية وعن تنقيب عن غاز شرق المتوسط، لأن مصر وجدت طريقها ولا بد إما من مقاسمتها، أو عرقلتها.. ورغم وجاهة السؤال عما يفعل أردوغان في سوريا وليبيا وشمال العراق وأرمينيا، وسفن استكشافاته في المياه الإقليمية لليونان وقبرص، وقاعدته العسكرية في قطر، فإنه لا يرى في ذلك خطة توسع، إنما يظن أنه يحل مشاكل وأزمات هذه الدول.. وقطعًا أردوغان هو المشكلة وليس أبدًا جزءًا من الحل.. لأنه لم يحل مثلا الصراع في سوريا، هو فقط دعم الإرهابيين وحول ملايين من الشعب السوري إلى لاجئين، مروا من بلاده ليهددوا القارة الأوروبية.. وقد حصل على أموال ليمنع التدفقات بعض الوقت.
لم يحل أردوغان بتدخله أزمة ليبيا، إنما أخذ بيد حكومة طرابلس لتقسم البلاد فعليًا إلى غرب وشرق، كما أجج الصراع بين أذربيجان وأرمينيا، التي ما فتأت تطالب تركيا بالاعتذار عن مذبحة الأرمن في بدايات القرن الماضي.. فيما يواصل مزاحمة اليونان على حقوقها وحدودها البحرية.. ولم يقدم حلاً لأزمة الدول العربية الأربع مع قطر بإقامته قاعدة عسكرية في الدوحة، لأن هذه القاعدة ثبتت الأزمة، ولم يتحرك بأي شكل سياسي لطرح حلول.