لم تتهيأ الفرصة أمام الجيش المصرى فى صباح 5 يونيو 1967م لخوض غمار القتال ومواجهة العدو وجها لوجه - رغم بسالة أبطاله وجدارة قواته - برفع رايات النصر وحماية الأوطان فى كل عصر، مما انتاب العدوَ وقتها من الغرور والتظاهر بأوهام باتت شيئًا فشيئًا بالنسبة له معتقدات راسخة من بينها الترويج لأسطورة التفوق النوعى على مصر والعرب وأن جيشه لا يُقهر!
لقد كشف المصريون خلال هذه المحنة عن عزتهم وإرادتهم القوية وإصرارهم على الانتصار ورفض خضوع جزء من تراب الوطن تحت الاحتلال، فلم يستسلموا لليأس أو للهزيمة؛ انطلاقًا من قوله تعالى: (وَقَاتِلُوا فِى سَبِيلِ اللهِ الَّذِينَ يُقَاتِلُونَكُمْ)[البقرة: 190]؛ حيث أعدت القيادة المصرية إستراتيجية المرحلة وأهدافها التى تتلخص فى توفير فرص مناسبة للجيش لإعادة تنظيم صفوفه بشكل جيد ومتطور؛ من أجل بناء قوة هجومية قادرة على إنجاز عملية التحرير.
وفى سبيل ذلك ضرب الشعب المصرى مواقف رائعة أكدت اكتمال الأبعاد الحضارية لهذا الشعب العريق ورسوخها لدى الأجيال المتعاقبة بداية من الوعى المبكر لمسألة الانتماء إلى الوطن وضروراته التى تقتضى الحفاظ على مؤسسات الدولة ومقدرات الوطن، ومرورًا ببذل الجهود عبر كل الاتجاهات وبشكل متوازٍ؛ لتحقيق الكفاح المطلوب تجاه كل ما يهدد الوطن وأمنه من خلال تأسيس البناء أولًا، وفى ذات الوقت دفع الخطر والتهديد، فضلا عن تحمل الشعب ظروف المعيشة الشديدة جراء تحول اقتصاد الدولة فى مجمله إلى «اقتصاد حرب» من أجل دعم قواته المسلحة وإعادة بنائها على أسس علمية رصينة.
وهى إجراءات متنوعة بلورها المصريون تحت شعار خالد: «يد تبنى ويد تحمل السلاح»، فقد مد الشعبُ الجيشَ بخيرة أبنائه، خاصة الشباب المثقف والمتعلم، مما أنجز فى استيعاب تكنولوجيا الأسلحة الحديثة بصورة سريعة ودقيقة، فضلا عن الإبداع فى التعامل مع العدو بأساليب مبتكرة وعلمية أسست لتفوق المقاتل المصرى على نظيره، وفى ظل ذلك الإعداد الشاق أصر الشعب على استكمال مسيرة العمران وخطط التنمية المتنوعة وفق القدرات المتاحة، فرغم صعوبة هذه المرحلة تم الانتهاء من زيادة الإنتاج المحلى لكثير من حاجات القوات المسلحة الباسلة من خلال التعبئة العامة والعمل الجاد والإتقان وبناء المصانع المتنوعة.
وبجانب هذه الحالة من الاتحاد التى شارك فيها المصريون بمختلف طوائفهم وقطاعاتهم ومحافظاتهم سطر شعب سيناء ومحافظات القنال صفحة مشرِّفة فى سجلِّ أداء واجبهم الوطنى، أبرزوا فيها أنهم كانوا شوكة فى ظهر العدو، وحصنًا منيعًا ضد كل ما يهدد أمن الوطن والمواطنين، من خلال تمكين الجيش المصرى من أداء مهمته الوطنية، سواء بالمساعدة المباشرة فى الاشتباك مع العدو والتضييق عليه أو بالعمل الاستخباراتى ونقل معلومات العدو وتحركات جنوده من خطوطه الخلفية أو بالانتقال إلى محافظات الدلتا وإخلاء هذه المناطق للعمليات العسكرية.
ويضاف إلى ذلك أن الروح الدينية لدى المصريين جميعًا أعطت قوة روحية للقوات المسلحة فى مسيرتها وقت تحمل الهزيمة وفى طريقها للإعداد لصنع النصر والفوز، فالجندى المصرى يمتاز بأنه جندى قوى وعنده عزيمة وإصرار وحب لوطنه، وهذا نابع من طبيعة الجيش المصري؛ لأنه ليس جيشًا طائفيًّا أو فئويًّا، ولكنه جيش يشارك فيه كل أبناء الوطن جنبًا إلى جنب، لذا وصف النبى "صلى الله عليه وآله وسلم" هذا الجيش وظهيره الشعبى بأنهم: «خير أجناد الأرض».
وجملة هذه المعانى تكشف عن سمات الواقع المُشَرِّف الذى صنعته الأمة المصرية بتلاحم ثلاثية الدولة: القيادة والجيش والشعب خلال الـ 6 سنوات الواقعة بين الهزيمة والنكسة (يونيو 1967م) والانتصار والعبور (أكتوبر 1973م) تحت شعار خالد: «الشعب والجيش يد واحدة»، وهو رباط مقدس مستمر بين المصريين وقواتهم المسلحة عبر العصور، وبه ثبتت خيرية هؤلاء الجند؛ كما فى قولِ النبى "صلى الله عليه وسلم": «لِأَنَّهُمْ وَأَزْوَاجَهُمْ وَأَبْنَاءَهُمْ فِى رِبَاطٍ إِلَى يَوْمٍ الْقِيَامَةِ».
* نقلًا عن صحيفة الأهرام