Close ad

ثورة فى بلاط صاحبة الجلالة

6-9-2020 | 14:05

خبط صديق صحفى عشرة عمر على كتفى قائلا: كفانا كلاما وتنظيرا عن أزمة الصحافة، فكلنا نعيشها مجتمعا وأفرادا. ضحكت قائلا: إحدى مصائبنا التوصيفات المعلبة لأزماتنا مثل المرور والإسكان والتعليم وتجريف الأرض الزراعية والبنايات المُخالفة، وتنبلة الموظفين وخسائر القطاع العام وفساد المحليات.. وبالمرة أزمة الصحافة والإعلام.

غابت الابتسامة عن ملامحه، وحل بعض الجدية محلها: هذه فلسفة عقيمة. ضحكت أكثر: المجتمع الذى لا يتفلسف يفقد فرص التقدم، الفلسفة رؤية للحياة مستندة إلى المعرفة والعقل المنظم، وتخاصم الانطباعات السريعة والقوالب الفكرية. قال: ماذا تعني؟ قلت: مشكلاتنا هى أعراض أزمة أشمل وأعم، مثل سخونة وقىء وإسهال وصداع لمرض ما، لكنها ليست المرض، هى الطريقة التى ينظم بها المصريون أمورهم العامة والخاصة، القواعد الحاكمة لأنشطتهم فى الحياة، وأساليب العلاج التى يلجأون إليها، طريقة وقواعد وأساليب بالية لم تحل أزمة واحدة، مع أننا نعيشها منذ عشرات السنين، وهذا هو حال الصحافة الآن.

قال: هل يمكن أن تضرب لنا بالصحافة مثلا؟ قلت: خذ حادث محكمة مصر الجديدة التى بات حديث المدينة من أسوان إلى سيدى براني، هل تعاملت معه الصحافة بطريقة وقواعد وأساليب تثير شهية الجمهور على شراء ما تكتبه الصحف ورقا أو تنشره إلكترونيا؟

قال: كيف؟ قلت: نفصل الحادث إلى عناصره: مسرح الحادث، أطراف الحادث وهما السيدة المعتدية والضابط المعتدى عليه، التفسير الاجتماعى والسياسى له، تداعياته ورد فعل المجتمع، هل رسمت الصحافة الورقية ومواقعها الإلكترونية صورة دقيقة لهذه العناصر مكتوبة بشكل ممتع وجذاب، الكل انشغل بالفيديو وكيفية وقوع العنف اللفظى والمادي،وهرعوا وراء حفنة من المعلومات عن السيدة وبيان النيابة الإدارية التى تعمل بها، وبيان النيابة العامة عن التحقيق وبعض الآراء عن هيبة القانون ودمتم، كل هذا متاح على شبكات التواصل الاجتماعى لحظة بلحظة، من فيسبوك وتويتر ويوتيوب، فلماذا يغرم المستهلك نفسه ثمنا لسلعة مجانية؟

سأل: وما هو البديل؟ قلت: القيمة فى التفاصيل، من هي، أين تعيش، ما سبب وجودها فى المحكمة، كيف دخلت كلية الحقوق ومتى تخرجت وتقديرها، كيف عُينت فى النيابة الادارية، وماذا تعمل فيها، هل لها مشكلات سابقة..تفاصيل حياتها لترسم لنا صورة شخصية ونفسية واجتماعية لها، حتى نعرف أسباب سلوكها دون أن نحكم عليه، نفسه الشئ عن الضابط، هل عرضت الصحافة أقواله فى المحضر الرسمى وماذا قالت السيدة، ثم مسرح الجريمة وهو المحكمة، هل كان يوما عاديا فيها أو شديد الزحام، شكل المحكمة والقاعات، نظام جلساتها، وكيف وصلت السيدة إلى داخلها دون كمامة..الخ، وأيضا الكفالة الـ2000 جنيه التى لم تعجبنا جميعا، ما القانون الذى ينظمها؟، وأمثلة لكفالات فى جرائم مختلفة، رد فعل الرأى العام وأسبابه، تاريخ جرائم مشابهة، أيا كان يجب أن تصنع الصحافة قصة صحفية متكاملة على مساحات واسعة، قصة يستحيل أن تجدها على مواقع إخبارية أو شبكات التواصل الاجتماعى أو على شاشات الفضائيات، ويمكن للمجتمع أن يفهم منها باطنه وظاهره دون أى اجتهادات متعجلة وغيبية، وهذا النوع من الوقائع يسهم فى بناء وعى المجتمع بالتفكير العلمى المنظم وليس بالتفكير العشوائى أو الغوغائى السائد، وحين تنزل القصة على الموقع الإلكترونى للصحيفة، لا يطلع القارئ عليها إلا بعد أن يدفع ثمنها، وسوف يدفع راضيا.

قال: يا صبر أيوب، هذه معلومات تجمع فى أسبوع أو عشرة أيام على الأقل، تكون الدنيا اتغيرت. قلت: هذا صحيح، لكن بتشكيل فريق من أربعة أو خمسة محررين مهرة ومصور ومعهم كاتب جيد، سوف ينتهون من القصة فى يومين، أى قبل أن ينطفئ الشغف بها. فسأل السؤال الصعب: ولماذا لم يحدث؟ قلت: هذا جوهر الأزمة، هذا عمل مكلف جدا، انتقالات ومصروفات نثرية وتكاليف علاقات مع مصادر جديدة وأشياء أخرى، وإدارات الصحف الآن تشد الحزام على بطنها بسبب أزماتها المالية القاسية، الصحافة الجيدة صارت صناعة باهظة التكاليف، وفكرة الصحافة الرخيصة انتهت من العالم تماما..والأخطر أن الصحفيين فى السنوات الأخيرة وتحديدا بعد 2011 أصيبوا بالكسل والتباطؤ فى الحركة، كما أن العلاقات المهنية داخل الجرائد تراخت إلى حد ما أو إلى حد كبير، حتى إن مفهوم الإجادة الفردية والعقاب والثواب توارت خلف اقنعة فيروس كورونا قبل أن ينفجر الفيروس فى البشرية بفترة طويلة..باختصار الصحافة فى حاجة إلى إعادة هيكلة مهنية تتخلص فيها من البطالة المقنعة، فلا تقسيم الجريدة إلى الأقسام القديمة عاد صالحا، ولا توزيع الألقاب الصحفية من نواب رئيس قسم ونواب مدير تحرير ومساعدى ونواب رئيس تحرير دون عمل حقيقي، بل صارت عبئا على تنظيم العمل ومعطلا له.

والأهم أن يعاد تدريب الصحفيين مشاركة بين المؤسسات الصحفية والنقابة والهيئة الوطنية للصحافة، وفق خطط قصيرة ومتوسطة الأجل، لها برامج متفق عليها ويسهم فى تخطيطها خبراء أجانب من أهل المهنة المرموقين، برامج داخلية وخارجية تشبه ورش العمل وتنتج فعليا أعمالا صحفية قابلة للنشر بالمفاهيم الحديثة، وليست كلاما نظريا لتستيف الأوراق وإذاعة أخبارها، مع استقدام صحفيين من الخارج لهم خبرات وتاريخ مهنى معروف، بعضهم أساتذة فى كليات الصحافة، وتعقد بينهم وبين كوادر مصرية حلقات بحث ونقاش عن تجارب الصحف الكبرى فى السنوات العشر الأخيرة التى نجحت فى الجمع بين التوزيع الورقى والتوزيع الإلكترونى مدفوع الثمن، كما يسافر بالتتابع نخبة من الصحفيين المصريين إلى تلك الصحف الناجحة للمعايشة، والعمل فيها لمدد تتراوح ما بين ثلاثة أسابيع إلى ثلاثة أشهر.

فى تلك الفترة التى يمكن أن نسميها تجهيز البنية الأساسية تٌكلف إدارات التوزيع والإعلانات بوضع خطط وبرامج مختلفة عما ألفته، لتسويق مطبوعاتها بدلا من موزعى الشوارع بما فيها الإعلان عن موضوعاتها المثيرة فى الراديو والتليفزيون والإنترنت. يبقى التمويل ومصدره الأول من بيع أصول راكدة عبارة عن أراض وعقارات لا علاقة لها بالمهنة، أى تستثمر قيمة هذه الأصول فى رفع كفاءة عناصر الإنتاج ولا تسدد منها ديونا قديمة. نعم الصحافة فى حاجة إلى ثورة إدارية وتحريرية.

نقلا عن صحيفة الأهرام

كلمات البحث
اقرأ أيضًا:
نسل الأغراب .. وهج من الألعاب النارية

لم أصفق لقرار وقف التعامل مع المخرج محمد سامي، وربما لم يعجبني وأحسست ببعض الألم، فهو قرار أقرب إلى التشهير من مجرد موقف غاضب من مخرج ارتكب شيئًا لم يعجب

لماذا نفشل فى مواجهة الفساد؟

رغم سذاجة السؤال إلا أنه سيف حاد راشق فى جنب المجتمع، يُسود معيشته دون إجابة شافية له، قطعا لا يوجد مجتمع على كوكب الأرض قَطَعَ دابر الفساد والفاسدين،

ليست أزمة الدكتور عبدالعال وحده

مسألة محيرة فعلًا، تشغلنا أحيانًا وننساها أحيانًا، نفسرها أحيانًا ونغلب فى تفسيرها أحيانًا، لكن لا تغادر مخيلتنا أبدًا، وهي علاقة المصريين بالسلطة، سواء

مؤامرة في حزب الوفد

تباينت المشاعر واضطربت بين موجة من الضحك وحالة من الرثاء، وكيف لا نضحك ونحن نسمع عن وأد مؤامرة كبرى من الجيل الرابع داخل أروقة بيت الأمة وفصل عشرة من المتآمرين