Close ad

نفس عميق من الهواء النقىّ (8)

28-8-2020 | 13:46

يبدو أن هناك صلة عميقة بين شعر العيون وبين عيون الشعر. ولذلك تبارى رواد الشعر العربى الحديث فى وصف عيون المحبوبة، فجاءوا بلآلئ بقيت فى الذاكرة، ومنها ذاكرتى كقارئ للشعر ومحاول له تربّى على أشعار جيل الخمسينيات والستينيات، خاصة بين شعراء الفصحى، الذين بدأ رائدهم الشاعر العراقى بدر شاكر السياب هذه الصرعة، وسار على دربه كبار الشعراء، وبالذات شعراء الفصحى المصريون الذين تلوه فى الظهور بسنوات قليلة. وقد رأيت أن أختم مؤقتاً رحلتى فى التراث الأدبى بحثاً عن نفس عميق صاف من أكسجين الفن ينفعنا فى عام الاختناق العالمى 2020، أقول رأيت أن أختم سلسلة مقالاتى فى هذا الصدد، والتى لا يمكن أن تستمر إلى الأبد، ولكن قد نعود إليها من حين إلى حين, أختمها بما تبقى فى ذاكرتى من عيون الشعر التى يمكن تسميتها بشعر العيون، حيث يتفنن شعراؤنا من جيل الرواد ومن جاءوا بعدهم مباشرة فى إبداع صور وتشبيهات جديدة غير مسبوقة لوصف عيون الحبيبة. ولنتبع فى استعراضنا لهذه الأوصاف والتشبيهات الترتيب الزمني. ولهذا لنبدأ بالسياب، فى قصيدته الأشهر أنشودة المطر، التى كتبها فى الخمسينيات فى منفاه بالكويت، واستهلها بهذه الأبيات: عيناك غابتا نخيل ساعة السَّحَر/ أو شرفتان راح ينأى عنهما القمر/ عيناك حين تبسمان تورق الكروم/ وترقص الأضواء.. كالأقمار فى نهَر/ يرجُّه المجداف وهْناً ساعة السَّحَر ../

ومن هذا التخييل الرومانسى الذى ينهل من الطبيعة ويحن إلى نخيل العراق، لكنه رغم رومانسيته، التى تنتمى فى جوهرها لثلاثينيات القرن وأربعينياته، جاء بأوصاف للعيون وتشبيهات جديدة على الشعر العربي، أقول: من هذه البداية، فى تثوير الصورة الشعرية، ينقلنا شاعرنا المصرى أحمد عبد المعطى حجازى إلى قفزة جديدة فى ابتداع صور شعرية مبتكرة وطازجة فى وصف عيون المحبوبة، وذلك فى قصيدته موعد فى الكهف، ديوان لم يبق إلا الاعتراف، والتى ربما كتبها بعد أنشودة المطر للسياب بأعوام قليلة. يقول حجازى فى وصف عيون حبيبته: «عيناكِ.. يالكلمتين لم تقالا أبدا/ خانهما التعبير، حتى ظلتا كما هما/ راهبتين تلبسان الأسودا/ تنتظران ليلة العرس.. سُدَى.

وربما فى نفس التوقيت، كتب صلاح عبدالصبور قصيدته «أغنية لليل» التى ينتقل فيها فى وصف العيون انتقالاً حاسماً من الرومانسية إلى السيريالية وإلى أدب الرعب القوطي، فمن بداية تقليدية نسبياً تنفتح لنا فجأة فى نصه سراديب من الرعب، كما سنري: عينان سوداوان / نضاحتان بالجلال المُر والأحزان/ مرّت عليهما تصاريف الزمان/ فشالتا من كل يوم أسودٍ ظِلا..

ثم فجأة: عينان سردابان/ عميقتان مَوْتا/ غريقتان صمتا/ فإن تكلمتا/ تنَدَّتا تعاسةً ولوعةَ ومَقتا/ ينكشف السرداب حينما تدق الساعة البطيئة الخطي/ معلنة أن المسا قد انتصف/ تقول لى العينان..

والجزء الثانى من القصيدة هو كلام العينين، ولا تتسع له المساحة كله, لكنه ينتهى بهذا الرجاء المُر والمخيف: فى الساعة الليلية الأخيرة/ خذنى إلى البيت, فإننى أخاف أن يبُلَّنى الندي/ تذوب أصباغي.. ويبدو قُبْح وجهي!.

بهذه الومضات من شعر العيون وعيون الشعر، نتوقف مؤقتاً عن هذه السلسلة، لنتابع الجديد من الأعمال الأدبية, أو التى هى أرض لم أستكشفها بعد كقارئ وأحب أن تشاركونى متعة هذا الاستكشاف، لكن لنا عودة من حين لآخر إلى المنابع التى صنعت وجداننا، وهواء البحور والجبال الذى يشفى الصدور, لنستنشق معاً مرة أخرى نفساً عميقاً من الهواء النقيّ.

اقرأ أيضًا:
المغترب.. وشقشقات العش

فى كتابه الصغير الجميل, رأيتُ رام الله، يقول مريد البرغوثى، الراحل الفلسطينى الكبير المغترب، الذى أخيرا وجد وطنه السمائى النهائى، بعد شتات فى البلاد وطوا

ابنة الحظ (2)

يبدأ النصف الأول من رواية إيزابيل الليندى ابنة الحظ بحلم الحب وينتهى بحلم الذهب. وفى النصف الثانى نشهد الإفاقة التدريجية من الحلمين معا- ذكرى الحب الأول

ابنة الحظ

الكاتبة الشيلية إيزابيل الليندى يقال عنها - ضمن ما يقال - إنها أكثر من كتب بالإسبانية رواجاً بين القراء. وبصرف النظر عن مدى دقة هذه المقولة، فإن روايات

رعشات الجنوب «3»

ختمنا المقالة السابقة عن رعشات الجنوب للروائى السودانى أمير تاج السر، والتى استغرقت منا حتى الآن مقالتين وهذه الثالثة، بهذه الجملة: مازال لدينا الكثير

طبيب أرياف

طبيب أرياف

دراما الحياة

تحتار فيها: هل هى ملحمة بطولية أم مأساة أم ملهاة أم مهزلة؟ الحياة فيها من البطولة قدر ما فيها من المساخر، والنهايات السعيدة والمفجعة؛ فيها من قصص الحب

الأكثر قراءة