فى ليلة صيفية تعود لبداية السبعينيات، تدفق الكبار والصغار على مكان خلف المدرسة الابتدائية لقريتى بريف الدلتا، لمشاهدة فيلم، لم أعد أتذكر اسمه للأسف الشديد، تعرضه إحدى هيئات وزارة الثقافة. الامكانات بسيطة. جهاز عرض موجه لحائط عال، والصورة تظهر على الحائط،. كانت صدمة حضارية. الانبهار لا يوصف بهذا العالم الرائع.. عالم السينما ونجومها ونجماتها. لم نكن نسمع عن عرض بقرية مجاورة إلا وتسابقنا لمشاهدته.
ثم جرت بالنهر مياه ملوثة، فإذا بالريف يتم حرمانه من هذا العالم. أصبحت السينما كائنا خرافيا، يجرى الحديث عنه دون رؤيته. كانت فنا جماهيريا ومازالت بأنحاء العالم، لكنها فى مناطق عديدة بمصر لم تعد كذلك.
مناسبة هذا الكلام، أرقام مفزعة قرأتها فى تقرير لموقع إخبارى عربى عن السينما بصعيد مصر: لم يتبق سوى 4 دور سينما فقط، 2 بالمنيا والثالثة بالأقصر والرابعة فى أسوان. بعد أن كان العدد 42 بداية الثمانينيات، تحالفت عوامل التطرف الدينى والانسحاق المجتمعى والرسمى أمام موجات التشدد لتحرم الناس من فن حضارى هادف وممتع.
قبل أن تقوم دول، وتعرف شعوب عديدة معنى الحضارة، أقام المصرى تادرس مقار دار سينما بأسيوط عام 1908 عقب عودته من فرنسا. حذا حذوه مصريون كثر ببقية الأقاليم لتصبح السينما ثانى أهم سلعة تصديرية بعد القطن. ظل الاتجاه تصاعديا رغم التحول من الملكية للجمهورية والتغيرات الجذرية بالمجتمع. لكن سنوات السبعينيات وما بعدها، أوقفت المسيرة، فإذا بالسينما، والفن عموما، فى عين عاصفة التحريم المطلوب تنقية المجتمع من شرورها، وإذا بشهوة الانفتاح الاقتصادى تستثمر فى الأبراج السكنية والعمارات الفظة مكان دور السينما، تحت شعار المأوى أهم من اللهو والعبث. عمليا، عادت السينما فنا لسكان المدن الكبرى. لا مكان للريف والأقاليم والبدو. تضاءل عدد السينمات الشعبية، وتوقف الاستثمار بهذا المجال تقريبا.
عودة الفن السابع لجمهوره بالريف والأقاليم لا يعنى فقط هزيمة التطرف بل الرقى بالمجتمع وعاداته وتقاليده. الدولة تتحمل دورا أساسيا فى إصلاح ما كسرته موجات العنف والتشدد التى أغارت على مصر طيلة نصف القرن الأخير.
نقلا عن صحيفة الأهرام