الخلط بين الإسلام والمسلمين: من أكبر المغالطات المعرفية الخلط بين الإسلام والمسلمين؛ فالإسلام هو الدين قرآنا وسنة صحيحة فقط، والقرآن هو المتن المقدس للإسلام مبينا بالسنة الصحيحة الثابتة عن النبى عليه الصلاة والسلام فى أمر الدين، الدين هو الوحى الإلهى الذى تم إعلان اكتماله فى لحظة محددة (اليوم أكملت لكم دينكم). أما ما جاء بعد ذلك أو بخلاف ذلك فليس وحيا ولا دينا، وإنما خطاب دينى بشرى قابل للصواب والخطأ مهما كان قائله، فلا كلمة نهائية نحن مأمورون بأخذها إلا كلمة الوحي، وكل بشر يؤخذ ويرد عليه إلا محمد حامل مهمة تبليغ الرسالة، ولا أحد يتحدث عن الله تعالى إلا مبلغ الرسالة.
ومن أسف فقد خلط الناس فى أغلبهم بين الإسلام والمسلمين وعدوا تاريخ المسلمين هو تاريخ الإسلام، سواء فى قوتهم أو ضعفهم، وسواء فى تقدمهم أو تخلفهم، وسواء فى التزامهم بالإسلام أو عدم التزامهم. وتسبب هذا الخلط وتلك المغالطة فى إساءة فهم الآخرين للإسلام، فكلما أخطأ المسلمون عدّ الآخرون أن هذا خطأ الإسلام. والخطيئة المعرفية الكبرى أن يتحدث البعض عن تاريخ الإسلام السياسى أو الاجتماعى أو الاقتصادي، وهو يقص تاريخ البشر، بينما كان يجب عليه أن يتحدث عن تاريخ المسلمين وليس الإسلام. ومن هنا فإن أحد أهم متطلبات تأسيس خطاب دينى جديد هو التمييز بين الإسلام والمسلمين، التمييز بين المقدس والبشري، التمييز بين الدين من ناحية وطريقة فهمه وتطبيقه بواسطة المسلمين من ناحية أخري، التمييز بين الدين الإلهى والخطاب الدينى البشري، فالدين مرة أخري- هو الوحي، أما الخطاب الدينى فهو ما يفهمه المسلمون من الدين ويتجلى فى كتاباتهم وخطبهم وأحاديثهم وينعكس على سلوكهم وطريقة حياتهم. والدين صالح لكل زمان ومكان، بينما المسلمون متغيرون وعقولهم الفردية والجمعية متفاوتة، والتجديد يجب أن يطال طريقة فهمهم للإسلام، ويطال خطابهم الدينى البشرى المتغير. فالتجديد إذن يكون للمسلمين وطريقتهم فى التفكير ويكون لخطابهم الدينى وأنماط حياتهم الرجعية، وليس تجديدا للوحي، إنه تطوير فى طريقة فهم الوحى وليس تغييرا للوحى نفسه. إنه تطوير بالعودة للوحى الأصيل فى نقائه الأول وتخليصا له من كل ما نسب إليه من أقوال البشر. ويؤكد هذا الفهم، ما سبق أن أكدناه فى كتاب (نحو تأسيس عصر دينى جديد)؛ حيث من الواضح أنه مع مرور أكثر من أربعة عشر قرنا على ظهور الإسلام، لاتزال الفجوة واسعة بين الإسلام والمسلمين، فالإسلام (قرآنا وسنة صحيحة) يقدم نموذجا عالميا للدين الذى يلائم الطبيعة الإنسانية، ويعترف بالتنوع الكونى والإنساني، ويعدّ التعددية سنة إلهية، ويميز بوضوح بين الإلهى والبشري. إن الإسلام دين يؤمن بالتطور والتغير، وتعطى نصوصه قرآنا وسنة صحيحة مساحات واسعة للاجتهاد البشرى ومراعاة المصالح المرسلة، والاستحسان العقلي...إلخ، بينما المسلمون - فى أغلبهم- يعيشون فى جمود علمى وفقهى منذ أكثر من سبعة قرون، ويتبنون خطابا دينيا وعظيا إنشائيا فارغا ومنفصلا عن تطور العالم وتطور العلوم والثقافات، ولا تزال أنماط حياتهم اليومية رجعية لا تأخذ من الحضارة إلا قشورها، ويعيشون العلوم والتكنولوجيا كمستهلكين لها وليس كمنتجين. ولا يزال المسلمون يخلطون بين مورثاتهم الاجتماعية التى ورثوها من بيئتهم والتصور الإسلامى النقى المستمد من القرآن العظيم والسنة المطهرة الصحيحة، وهم يخلطون بين العبادة الحق والعبادة المزيفة، فلا يزال الكثيرون منا يقيمون علاقتهم مع الله من خلال الطقوس والمظهر فقط، وينسون المعاملات والصدق والالتزام والدقة وإتقان العمل.
وهذا الفريق يظن أن النجاة فى الدنيا والآخرة تتوقف على بعض المظاهر الشكلية والأقوال الجوفاء، وليس من خلال الالتزام والمسئولية، فسبيل الخلاص عندهم فى الشعارات والالتزام الصورى والمظهري، وليس فى ممارسة العمل البنّاء فى تنمية بلادهم والعالم، وهم يخلطون بين العبادة الحق فى الدين والتى تقيم علاقة فعالة بين الإنسان والله فتمده بدافع شخصى متجدد لممارسة دوره فى إعادة بناء العالم، وبين العبادة المزيفة التى يمارسها المراؤون، أو التى يمارسها الذين يخدعون أنفسهم ويظنون أنهم يسترضون الله تعالى بأداء بعض الطقوس ثم يسعون فى الأرض فسادا؛ فيغشون ويكتمون الشهادة ويشيع بينهم عادة النفاق والرياء وسيادة مبادئ الإهمال والغدر وعدم الالتزام بالوعود! كما يخلط كثير من المسلمين بين معتقدهم الدينى ومواقفهم السياسية ذات الطابع الإنسانى المتغير. إن الإسلام يشتمل على أصول تحقيق العدل والإنصاف. هذا شيء لا شك فيه، لكن الخطل يكمن فى أن يعدّ البعض أن مواقفهم السياسية المتغيرة والمرتبطة بالمصالح الشخصية والأيديولوجية والطبقية التى ينتمون إليها هى تعبير عن الإسلام الخالد نفسه!
والخطورة الحقيقية فى عدم التمييز بين الثابت والمتغير فى الأحكام الشرعية، وبين قطعى الدلالة من النصوص وظنى الدلالة منها، وبين المحكم والمتشابه فى القرآن، وأيضا عدم التمييز بين الأحاديث المتواترة والأحاديث الآحاد، وبين الأحاديث الصحيحة النسبة إلى الرسول الكريم والأحاديث الضعيفة والموضوعة كذبا عليه. وبطبيعة الحال ينتج عن ذلك الخلط تضخم تشريعى مكبل للإبداع والحياة الإنسانية، كما تنتج منظومة من الخرافات والمعتقدات والأحكام غير المنضبطة، ومجموعة من القيم المعكوسة التى تولد عقولا مغلقة وهشة، يمكن بسهولة قيادتها نحو ممارسة الإرهاب ليس ضد الآخر فحسب بل ضد أبناء الدين الواحد والوطن الواحد.
لسنا مع المنغلقين دينيا الذين يوحدون بين أفكارهم المغلقة والدين نفسه، ولسنا مع مقابلهم من الماديين، إنهما طرفا نقيض، وساهم كل منهما فى إحداث فهم غير منضبط للوحي. ولعل أخطاء المنغلقين، هى السبب فى النقد غير العادل الذى يوجهه الماديون المؤكدون على الطابع التاريخى للدين، والذين يركزون-من وجهة نظري- على رؤية الجزئى والسلبى والمؤقت فيما يدخل الفكر الدينى نتيجة الظروف التاريخية ونتيجة الجهل والسطحية، دون أى تمييز بين الدين من جانب والفكر الدينى من جانب آخر، ودون أى تمييز بين الإسلام فى نقائه الأول وبين المسلمين فى ممارساتهم التاريخية التى تصيب وتخطئ. ويتجاهل الماديون حقيقة أن التاريخ الدينى لا يقدم على الدوام ما هو جزئى ومؤقت ومرحلي، وإنما يقدم كذلك ما هو ذو طابع كلى وإيجابى ودائم. ولكن هذا لا يعنى أنهم لم يكونوا مُحقين فى نقدهم لأتباع الدين عندما حولوا «فهمهم» للدين الأصلى إلى حقائق نهائية ومؤسسية وكهنوت يركز على الطقوس والمظاهر أكثر مما يركز على نقاء الضمير والفضيلة واتساق الظاهر والباطن، ويركز على الشكلى والسلطوى والقهرى أكثر مما يركز على الجوهرى والعقلى والإنساني. ويبدو -من وجهة نظرى - أن هذا قدر كل دين، عندما ينسى أتباعه المنغلقون فى عصور الانحلال والتراجع الطبيعة الأصلية والمقصد الحقيقى له. ولهذا نجد أن الرسول الكريم عليه الصلاة والسلام كان يدرك خطر تحول الدين عن أصله إلى شكليات، ويخشى من «البدع» التى تفقد الدين جوهره وتتحول فيه الوسائل إلى غايات، والنوافل إلى فروض، والشكليات إلى جوهريات، والفروع إلى أصول، والعادات الاجتماعية إلى واجبات دينية! وهنا لابد أن نفهم أن تحذير محمد عليه الصلاة والسلام كان من «البدع» فى مجال العبادات، وليس من «الإبداع الإنساني» فى مجال الحياة. ولذا فإنه فى الوقت الذى حذر فيه من الأولي، دعا إلى تجديد فهم المسلمين للدين فى جانبه المتعلق بالحياة، حيث بشر بمن يأتى على رأس كل مائة عام مجددا لأمر الدين، أى مجددا للخطاب الدينى بغية تخليص فهم الدين من العنصر التاريخى ذى الطابع المؤقت الجزئى والعرضي، مع التدبر والتنقيب لاكتشاف ما هو دائم وكلى وجوهرى فى الدين، ومع ذلك يتنوع فى معناه ليلائم التطور الحادث فى ظروف الناس والمجتمع والتاريخ. ولذلك فإن المفسرين الأوائل عددوا المعانى للآية الواحدة واللفظ الواحد، ليس فقط فى نطاق التفسير العقلى أو التفسير بالدراية، بل أيضا فى نطاق التفسير النقلى بالمأثور عند الأوائل، حيث كانت تفسيراتهم المأثورة تطرح تعددية مدهشة فى المعانى لا يفهمها أهل الجمود الذين لا يريدون إلا معنى واحدا ووحيدا مطابقا لعقولهم المغلقة
نقلا عن صحيفة الأهرام