بكل المعانى يجب أن نكون فى مصر مدركين أننا «نخوض حرباً واسعة متعددة الأبعاد والمستويات» مع إثيوبيا حول حقوقنا «الحياتية» فى مياه نهر النيل. لم تعد الأزمة الراهنة مع إثيوبيا حول «سد النهضة» مجرد تنازع فى الرؤى أو إختلاف فى وجهات النظر بين المفاوضين ولكنها حرب حقيقية يجب أن تستخدم فيها مصر كل الأدوات الممكنة واللازمة لكسبها.
كما يجب أن ندرك أننا نخوض هذه الحرب فى بيئة غير مواتية سواء على المستوى العربى المنتكس والمشغول صراعاته الداخلية، أو على المستوى الدولى أو الإفريقى حيث تدور المفاوضات الراهنة، حيث تأكد أن دولة جنوب إفريقيا أقرب إلى تفهم الموقف الإثيوبى والتعاطف معه.
التعاطف من جانب جنوب إفريقيا يجد من يدعمه من الدول الإفريقية، ويمتد إلى المستوى الدولى على نحو ما تكشف خلال جلسة مجلس الأمن التى عقدت للنظر فى أزمة «سد النهضة» والتى أقرت نقل مناقشة الأزمة من إطار مجلس الأمن إلى إطار الاتحاد الإفريقى، ما يعنى أن مصر يمكن أن تواجه بتحديات جادة لنقل المفاوضات مجدداً من إطار الاتحاد الإفريقى إلى مجلس الأمن إذا ما تأكد فشل جولة المفاوضات التى أشرف عليها هذا الاتحاد وامتدت 11 يوماً وانتهت يوم 13 يوليو الحالى دون التوصل إلى اتفاق أو بيان مشترك، باستثناء الاتفاق على أن تقوم كل دولة من الدول الثلاث المتنازعة: مصر وإثيوبيا والسودان بتقديم تقريرها الذى يتضمن وجهة نظرها الخاصة إلى رئاسة الاتحاد الإفريقى، كما اتفق على عقد قمة إفريقية مصغرة لمناقشة التقارير وتحديد المسار المستقبلي لإدارة الأزمة.
وإذا كانت هذه القمة تعقد اليوم الثلاثاء (21/7/2020) فإن على مصر أن تشارك فى هذه القمة وهى متأكدة من أمرين؛ أولهما، أن الإطار الإفريقى فى إدارة الأزمة فشل فى مهمته، وثانيهما، أن رئاسة دولة جنوب إفريقيا للاتحاد الإفريقى لم تكن محايدة فى إدارتها للمفاوضات وأنها متمسكة بتعاطفها وتفهمها للموقف الإثيوبى حتى بعد أن أعلن آبى أحمد رئيس حكومة إثيوبيا، وفى ذروة إجراء تلك المفاوضات، أن بلاده «لم تتعهد بوقف ملء خزان سد النهضة».
المثير للاهتمام أكثر أنه عقب انتهاء تلك المفاوضات يوم 13 يوليو الحالى، وقبل أن ترسل الدول الثلاث بتقاريرها المنفردة إلى رئاسة الاتحاد الإفريقى للبت فيها وتحديد جدول أعمال القمة المصغرة المقترحة، فاجأ وزير المياه والري الإثيوبى سيليشى بقلي الجميع بإعلانه، فى مؤتمر صحفى أن «على الشعب الإثيوبى أن يسعد ببدء عملية ملء خزان سد النهضة».
كان يمكن لمصر أن تنسحب من المفاوضات بسبب كل تلك التجاوزات ولكنها، ولحسن الحظ، لم تفعل، لعدم تمكين إثيوبيا من الإفلات من المساءلة، لكن المتحدث الرسمى باسم رئاسة الجمهورية أعلن (17/7/2020) تواصل مصر هاتفياً مع رئيس جنوب إفريقيا الذى تترأس بلاده المفاوضات كونها رئيسة الدورة الحالية للاتحاد الإفريقى وأن الرئيس عبد الفتاح السيسي أكد رفضه الإجراءات الأحادية بشأن سد النهضة فى اتصال هاتفى تلقاه من سيريل راما فوزا رئيس جمهورية جنوب إفريقيا.
هذا الموقف المصرى المهم كان يمكن البناء عليه، بعد توفير البيانات الرسمية التى تؤكد تنفيذ إثيوبيا لعملية بدء ملء خزان السد بعيداً عن المفاوضات وبإرادة منفردة، وتوظيف ذلك فى أروقة الاتحاد الإفريقى على أنه «إفشال إثيوبى متعمد للمفاوضات» وأنه أيضاً «إفشال إثيوبى لوساطة الاتحاد الإفريقى»، ومن ثم تكون الخطوة التالية هى طلب مصرى من الاتحاد الإفريقى بإصدار بيان يحمِّل فيه إثيوبيا مسئولية إفشال المفاوضات، ويطالب بنقل المفاوضات إلى مجلس الأمن.
يبدو أن الإثيوبيين أدركوا هذا الخطر، سواء بأنفسهم أو بنصائح من أصدقائهم وحلفائهم، ولذلك تحركوا سريعاً لاحتواء التحرك المصرى قبل أن يبدأ حيث قام وزير المياه والرى الإثيوبى بعقد مؤتمر صحفى أكد فيه نفى بلاده القيام بملء خزان السد بإرادة منفردة، ولكنه أمام حقائق تخزين المياه بكميات ضخمة فى بحيرة السد أرجع ذلك إلى تراكم كميات هائلة من مياه الفيضانات الزائدة ما اضطرهم إلى إدخالها إلى بحيرة السد، وهو بهذا يقول إن بدء الخزان كان اضطرارياً وليس مدبراً فى محاولة لإنقاذ الموقف واحتواء التحرك المصرى قبل أن يبدأ.
والآن، حيث من المقرر أن تكون القمة الإفريقية المصغرة قد بدأت وأن تكون مصر مشاركة فيها فمن الضرورى أن تبادر مصر بتوجيه الاتهام إلى إثيوبيا بأنها بدأت فى ملء خزان السد بإرادة منفردة دون اعتبار للمفاوضات وللاتفاقيات الموقعة بين الدول الثلاث: مصر وإثيوبيا والسودان، عندها ستنفى إثيوبيا هذا الاتهام وستكرر التبريرات نفسها التي سبق أن أعلنها وزير الرى الإثيوبى بأن الفيضانات الموسمية الهائلة هذه السنة هى التى فرضت دخول المياه المتراكمة إلى بحيرة السد، عندها تطلب مصر من إثيوبيا تقديم تعهد رسمى تقر فيه أن عملية بدء ملء خزان السد ستكون خاضعة للإرادة الجماعية وللاتفاقات القانونية والضوابط التى تطرحها مصر منذ بدء المفاوضات. إذا وافقت إثيوبيا سيكون ذلك نجاحاً للمفاوضات وإذا رفضت عندها تطلب مصر من رئاسة المؤتمر أن تقر رسمياً بفشل المفاوضات وفشل الوساطة الإفريقية وأن تحمل إثيوبيا مسئولية هذا الفشل، وأن تحيل الأزمة إلى مجلس الأمن. وإلى جانب ذلك يجب أن تكون مصر جاهزة بإعلان التزامها بحزمة من المبادئ والضوابط التى تلتزم بها فى إدارتها للأزمة تعلنها أمام الشعب الإثيوبى وأمام المجتمع الإفريقى وكل المجتمع الدولى كله من أبرزها تأكيد حرصها على أن تحقق إثيوبيا نهضتها وتنميتها شرط عدم الإضرار بحقوق الشعب المصرى فى الأمن والحياة، تهيئة لنقل الأزمة مجدداً إلى مجلس الأمن.
إعلان هذه المبادئ ليس كل شىء، لكنه إيذان بأن المعركة الكبرى سوف تبدأ وعلى كل المستويات الدبلوماسية داخل مجلس الأمن وخارجه، شرط عدم تمكين إثيوبيا من الإفلات من تحمل مسئولية إفشال مفاوضات ووساطة الاتحاد الإفريقى.
* نقلا عن صحيفة الأهرام