التحرش كلمة أصبحت على طاولة المصطلحات التي تتردد مؤخرا في مجتمعنا المصري بكثافة، وذلك جراء بعض الحوادث التي فجعنا بوقوعها في حياتنا ونحن من نعد أن شعبنا متدين بطبعه؛ ظنا منا أن هذه المقولة هي ضمانة لخلوه من وقوع الفواحش بصنوفها،وهو ما أثبتت الأيام نقيض ذلك على أثر ما نشاهده من تداول لأخبار اعتداء على عصب أي مجتمع والعنصر الباني لجدران أمانه،ألا وهي المرأة سواء من أي فئة عمرية كانت أو أي مستوى اجتماعي أو ثقافي، وأيا كان ملبسها أو مظهرها ومعتقداتها الدينية،فمرتكبو هذا النوع من التحرش بالنساء لا يفرقون فهي في لحظة جنونهم وغيهم الإجرامي لا يرونها سوى بوتقة لتفريغ طاقاتهم العدوانية ضدها للإطاحة بطهارتها وعفتها.
ولا يخفى علينا المعنى الذي ينطوي عليه مصطلح التحرش الجنسي فهو يستمد معناه بوصفه نوع من أنواع التنمر المتمثل في إكراه شخص على فعل جسدي، أو وعد غير لائق أو غير مرحب به بمكافآت مقابل خدمات جنسية. و معظم القوانين الحديثة تجرم التحرش الجنسي و يقع مرتكبوها تحت طائلة القانون والعقوبات بحسب ماتخوله السلطة القضائية في كل مجتمع.
وللتحرش الجنسي أشكال متعددة فيمكن أن يتضمن التلميحات الجنسية، أو طلب خدمات جنسية أو أي مضايقات لفظية أو جسدية لها طبيعة جنسية. ويمكن أن يحدث التحرش في العديد من البيئات الاجتماعية المختلفة مثل: أماكن العمل، المنزل، المدرسة، الأماكن الدينية، وغيرها.و يمكن أن يكون المتحرش أو الضحية من أي جنس او عرق أو لون أو دين في المجتمعات التى تتفشى العنصرية فيها والتمييز بين مواطنيها حتى رجوعا إلى أصولهم الوطنية.
وبرغم وجود القوانين التي تمنع التحرش إلا أنها لا تمنع المعاكسات البسيطة والتعليقات المسيئة والحوادث الصغيرة، ففي مصر كنا نشاهد رجل الشرطة في حالات يتم القبض فيها على الشباب الذين يتربصون بالتلميذات أمام مدارسهن لحظة انتهاء اليوم الدراسي وخروجهن للعودة إلى منازلهن، ونرى عقوبة "جز" أو حلاقة الشعر "زيرو" للشباب بحيث يفضح أمره ويعرف عنه اقترافه لتحرش ما بفتاة ما، وهو يتنافى مع الأخلاق.
والمجتمع غير غافل عن إنزال هذه العقوبة التي كان يخشاها الشباب،لكونها تلحق به العار وتنبذه من بين رفاقه؛ ليكون عبرة لمن تسول له نفسه اقتراف هذا الفعل المستهجن.
وللتحرش أشكال آخرى قد تقع في محيط العمل، حين يمارس صاحب العمل ضغوطا على مرؤسة لديه تحت تهديد بالطرد او ارغامها على ترك العمل او تفويت فرص الترقي الوظيفي عليها وغير ذلك من أمور يتفنن فيها ليصل إلى غرض دنيء يلح على نفسه المريضة الشبقة، وفي هذا ضرر بليغ يخلق جوا من العدوانية والقرارات غير المنصفة للممتنعة عن تلبية رغبة رب العمل أو من هو أعلى منها رتبة الراغب في انتهاك حرمة بدنها.
ولا نستطيع أن نضع تعريفا جامعا شاملا للتحرش الجنسي فهو يأخذ معان مختلفة باختلاف الثقافة المخيمة على كل مجتمع على حدى.
هذا..ويعد أي فعل سواء كان انتهاكا بسيطا أو إساءة جنسية أو اعتداء جنسيا نوع من التمييز المخل بالقانون في العمل في كثير من البلدان- حتى المتقدمة لا النامية فقط- ونوع من الإساءة النفسية والجسدية والتمييز لدى العديد من المنظمات والمؤسسات،وقد أصبح منع التحرش الجنسي والدفاع عن الموظفين ضد اتهامات التحرش الجنسي أهداف رئيسة لمتخذي القرارات القانونية وواضعيها.
و تموج تعريفات شتى لظاهرة التحرش الجنسي هنا وهناك للوقوف على ماهيتها،لعل أبرزها ماساقه المركز المصري لحقوق المرأة حيث يُعرِّفه بأنه: "كل سلوك غير لائق له طبيعة جنسية يضايق المرأة أو يعطيها إحساسا بعدم الأمان...و أنه أي صيغة من الكلمات غير المرحب بها أو الأفعال ذات الطابع الجنسي والتي تنتهك جسد أو خصوصية أو مشاعر شخص ما وتجعله يشعر بعدم الارتياح، أو التهديد، أو عدم الأمان، أو الخوف، أو عدم الاحترام، أو الترويع، أو الإهانة، أو الإساءة، أو الترهيب، أو الانتهاك أو أنه مجرد جسد".
ومهما يكن من أمر وإلى أن يتم حسم قضية التعريفات الخاصة بهذه الجريمة التي تصل في أحايين كثيرة إلى حد قتل المتحرش لضحيته إمعانا في إخفاء آثار جريمته الشنعاء، وماتنطوي عليه جرائم التحرش من نظرة بالغة الدونية للمرأة في مجتمع مازال يسيطر عليه الفكر الرجعي الذي يرى في إنجاب البنات عارا ما بعده عار، مما يذكرنا بعادة" وأد البنات" لحظة الميلاد التي ظنناها قد اندثرت بعد تحريمها منذ زمن بعيد. فهي طالما طالتها الإدانة الأخلاقية بأن يلقى عليها ما يقترفه الرجل من موبقات بسبب ماتبديه المرأة من مفاتن تشعل شهوته وغريزته متناسيا أمرا إلاهيا صريحا بغض البصر!
وهذا اتهام ليس من الدين في شيء .
ومما يدعو للدهشة ما طرحه عبد الله رشدي مؤخرا مبديا رأيه ومتهما ملابس المرأة أنها السبب الأعظم للتحرش بها، والعجيب أن التحرش الذي يشير إليه مورس ضد المحجبة والمنتقبة والطفلة! فكلامه لايعدو في مفهومي إلا أن يكون مجرد "هرطقة" لا يعي مايقول من فرط تعنته وكرهه وازدرائه للمرأة بشكل عام،وقد اتفق معه أحد القساوسة في ان اللبس الخليع لباس الزانيات"!
إن رمي المرأة ووصفها بالزانية أصبح علكة في أفواه هؤلاء المتعنين الذين يسهمون في نشر هذا الفكر غير الإنساني الحاض على الجريمة وإعفاء مرتكبيها من المسئولية الأخلاقية فالمرأة والمرأة وحدها هي الضحية والمتهم وعجبي!
وتأخذني الحيرة في التحول الذي طرأ على مجتمعنا الذي كانت خطوط الموضة تنطلق منه قبل أن تتلقفها حقول الموضة الباريسية، فنجد حالة من الأناقة بين فتيات الجامعة اللاتي كن يذهبن إلى جامعاتهن ب "الدراجة" ولم نكن نسمع عن حالات تحرش مثلما تزعجنا هذه الأيام ..
ليت علماء الاجتماع وعلماء الطب النفسي يهتمون ببحث هذه الظاهرة المخجلة التي تدنس الثوب الأخلاقي لمجتمع يعيد بناء نفسه وبدأ يخطو خطوات ناجحة نحو تحقيق الهدف.كما نهيب بواضعي المناهج الدراسية بمدارسنا انتقاء موضوعات تبرز قيمة المرأة وما أكرمها الله به في كتابه العزيز والسيرة النبوية العطرة وما أورده التاريخ من قصص وعبر كانت المرأة فيها قدوة في القيادة والجهاد، وما أدرج في مكتباتنا من كتب خطتها نساء نضعهم في مصاف العلماء؛ فكثيرات منهن يعكسن صورة حقيقية لنبوغ المرأة وتفوقها وكونها تمتلك من المعطيات والمهارات ماحبا الله به الرجال؛فامتلاك العقل هو الفيصل في تقييم البشر بعيدا عن التفكير الدوني الذي يسيطر فيه النصف الأسفل من الجسد.
وللتربية دور لا تغفله ينبغي أن يعامل الوالدين الابنة مثلما يعامل الابن دونما تمييز بأن على الفتاة خدمة أخيها لأنه"الذكر".
كل ذلك وغيره مما يسهم في ان تستقيم التنشئة لأبنائنا على نظرة منصفة تضع المرأة والرجل في ميزان آدمي واحد؛ لنقضي على التحرش وسنينه وننعم بمجتمع آمن!
------------------------------------------------------------------
* أستاذ ورئيس قسم الإنتاج الإبداعي بأكاديمية الفنون