Close ad

التحرش وسنينه

12-7-2020 | 14:49

من الجلبة الأخيرة التى صاحبت اتهام شاب بالتحرش والاغتصاب لعدد كبير من الفتيات، تصورت أن الدنيا يمكن أن تقوم هذه المرة ولا تقعد، وأن المجتمع سوف ينتفض ويغادر مقعد الغضب والإدانة وبرامج الكلام الرتيب فى الفضائيات، وينزل إلى ساحة الأفعال، تشريعات وعقوبات حاسمة وحملات منظمة لوقف ظاهرة التحرش فى شوارعنا.

لكن ريما الملعونة تعود دوما إلى عاداتها القديمة، كأن الأيام والتجارب تمر بنا من خلف ظهورنا فلا نتعلم منها شيئا، ونعيد السيناريو الممل مشهدا مشهدا دون أى تعديل لا فى موقع التصوير ولا فى نص الحوار ولا الديكور ولا الموسيقى التصويرية، أتذكرون جرائم التحرش الجماعى فى ميدان التحرير بالقاهرة فى عام 2011وعام 2014 ، وفى منطقة المشاية بالمنصورة ليلة رأس السنة الفائتة وما تابعها، ربما لا تذكرونها.

نعم عدنا إلى التثاؤب كالعادة، مع أن المصيبة كبيرة تمس أمهاتنا وزوجاتنا وأخواتنا وبناتنا، كرامتهن وإنسانيتهن وحقوقهن، ويبدو أن المتحرشين السفلة تغيب عنهم هذه الحقيقة البسيطة كلما نقحت عليهم غرائزهم، فينتقلون تحت ضغطها من مصاف بنى آدم ، إلى درجة الحيوانات. ونحن لا ننكر الغريزة ولا قوتها، ولا نستبعد تأثير رؤية امرأة جميلة عليها، لكن ننكر بروزها فى الشارع أو ميدان عام أو أوتوبيس أو عربة مترو أو على شاطئ بحر أو صالة سينما أو مول تجاري، إلى الحد الذى يفقد فيها كائن عاقل سيطرته على نفسه، وينسلخ إلى حيوان جامح.

وبغض النظر عن جريمة هذا الشاب وما أحدثته من ضجة وتحقيقات نيابة ومصادمات على صفحات التواصل الاجتماعي، فالقضية أهم من تحرش هنا واغتصاب هناك، وهى حرمان المرأة نصف المجتمع من ممارسة حياتها دون أن تلتفت يمينا ويسارا من فزع الملاحقة والوقاحة، أن تعيش وتتحرك إنسانا قبل أن تكون أنثى يطاردها حيوان ضال، هل يمكن لفتاة مصرية أن تخرج وحدها فى رائعة النهار، كأن تتمشى على كورنيش النيل أو ساحل البحر أو تجلس على كافتيريا تقرأ كتابا أو تقلب فى مجلة أو جريدة مع كوب من العصير أو تذهب إلى السينما، دون أن تتعرض للتحرش بألفاظ نابية أو محاولات مهينة؟

هل يمكن أن تجلس مجموعة من الفتيات وحدهن فى مكان عام دون أن تقفز عليهن العيون التى تكاد تخرج من محاجرها، وتتطاير حولهن عبارات الاستظراف التى تصل أحيانا أو كثيرا إلى حد الوقاحة؟!

قد يصرخ واحد من عينة الشيخ الذى تستفز رجولته المرأة غير المحجبة قائلا: ولماذا أصلا تخرج المرأة من بيتها؟، البيت مملكتها وحصنها، وطبيعى حين تغادره وحدها أن تكون عرضة لغارات الغزاة الطامعين فى ثروتها الجسدية كأننا نعيش فى غابة؟

وهذا الشيخ المُثار من رؤية وجه امرأة وشعرها فقط، يتجاهل عمدا أن حالات اغتصاب كثيرة وقعت لبنات صغيرات ليس فيهن من علامات الأنوثة المُسْتَفِزة إلا صورا يتخيلها عقل الكائن المُغْتَصِب.

قطعا رأيه متخلف، لا يعى أن المرأة إنسان وليست وعاء جنسيا لا بد أن نغلق عليه فى خزانة خاصة لحين الاستخدام الشرعي، وإذا أطلت خارج تلك الخزانة لأى سبب، يحق عليها المطاردة والانقضاض.

طبعا أصل الأزمة ثقافة، ثقافة بلا قيم إنسانية، ثقافة لها مصادر عديدة: عادات وتقاليد، مفاهيم دينية ليست من الدين، وغياب القانون.

وهى الثقافة التى دفعت محاميا أن يكتب على صفحته تعليقا يقول فيه: أنا مستعد أن أدافع مجانا عن أى شاب يتحرش بفتاة تمشى شبه عارية فى الشارع، ويتجرأ على شيخ الأزهر بعبارة لا أظن ولا واحد فى المليون إنه نطق بها: مجرد خروجك من بيتك بلبس غير محتشم، هو فى حد ذاته تحرش بغرائز الشباب، لأن شيخ الأزهر عالم حقيقى ويعرف أن غض البصر فضيلة للمسلم، وإذا صادف امرأة عارية فهى اختبار لمدى التزامه بمكارم الأخلاق التى دعا إليها دينه، وليست دعوة لاقتحامها.

وللعلم التحرش ليس جريمة حديثة، بل لها تاريخ، خاصة فى الموالد الشعبية التى يتجمع فيها عشرات الآلاف من الناس بحرى وقبلي. وأذكر ونحن نخطو من مرحلة المراهقة إلى مشارف الشباب، تعرفت على طالب يدرس علوما دينية، يسكن شارعا قريبا من بيتنا، وطلبت منه ألفية بن مالك لقراءتها فى الصيف، فدعانى إلى مولد الحسين، ولم أكن من هواة الموالد، لكراهيتى للزحام الشديد، فرفضت فإذا به يقول: الميزة فى الزحمة وسط البنات والستات.ولو راجعنا إلى السينما المصرية وتوقفنا عند ثلاثة أفلام من روائعها وهى دعاء الكروان، والحرام، والزوجة الثانية، قد يدهشنا أنها تعاملت مع التحرش، كأنه أمر عادي، حتى لو انتهى إلى الاغتصاب، وفى كل مرة المرأة هى التى تدفع الثمن كاملا، هنادى يقتلها خالها، وعزيزة تموت من حمى النفاس بعد أن قتلت وليدها الحرام من عملية اغتصاب، وفاطمة يطلقها العمدة قسرا من زوجها، وإن هزمته بـ «كيد النساء»، وأخذت حقها منه.

لكن لا توجد فاطمة كثيرا فى بلادنا، حتى إن البنات اللائى فتحنا القضية الأخيرة فعلن ذلك بعد سنوات من ارتكاب الجريمة وليس فى توقيتها. وطبعا الصمت سببه أن المجتمع صنع منهن الجانب الأضعف، الجانب الذى يلاحقه العار بلا ذنب أو جريرة، وربما مازال بعضنا يتذكر المسلسل البديع «قضية رأى عام» عن اغتصاب ثلاث نساء محترمات من ثلاثة شبان، أحدهم ابن سياسى صاحب نفوذ وسطوة، وكيف شن هذا السياسى ومحاميه هجوما متوحشا على الضحايا ليثبت سوء سلوكهن أولا، وهو ما يحدث فى الواقع فعلا. ودون ثرثرة طويلة، علينا أن نقف ولو مرة بجدية لصد ظاهرة الكلاب المتحرشة، وأن نعمل على نسف الثقافة القديمة على الأمد الطويل، لكن الآن يجب أن نبتكر عقابا له شكلان: «جرسة» عامة بنشر قائمة يومية بالصور فى الفضائيات للمتحرشين، ثم تقنين عقوبة حبس فى معسكرات أشغال شاقة فى المناجم، رصف الطرق، استصلاح الأراضي، العمل فى المدن الجديدة بالمحافظات البعيدة والخدمة على الحدود، لعل هؤلاء المتحرشيون يعودون رجالا محترمين.

نقلا عن صحيفة الأهرام

كلمات البحث
اقرأ أيضًا:
نسل الأغراب .. وهج من الألعاب النارية

لم أصفق لقرار وقف التعامل مع المخرج محمد سامي، وربما لم يعجبني وأحسست ببعض الألم، فهو قرار أقرب إلى التشهير من مجرد موقف غاضب من مخرج ارتكب شيئًا لم يعجب

لماذا نفشل فى مواجهة الفساد؟

رغم سذاجة السؤال إلا أنه سيف حاد راشق فى جنب المجتمع، يُسود معيشته دون إجابة شافية له، قطعا لا يوجد مجتمع على كوكب الأرض قَطَعَ دابر الفساد والفاسدين،

ليست أزمة الدكتور عبدالعال وحده

مسألة محيرة فعلًا، تشغلنا أحيانًا وننساها أحيانًا، نفسرها أحيانًا ونغلب فى تفسيرها أحيانًا، لكن لا تغادر مخيلتنا أبدًا، وهي علاقة المصريين بالسلطة، سواء

مؤامرة في حزب الوفد

تباينت المشاعر واضطربت بين موجة من الضحك وحالة من الرثاء، وكيف لا نضحك ونحن نسمع عن وأد مؤامرة كبرى من الجيل الرابع داخل أروقة بيت الأمة وفصل عشرة من المتآمرين

الأكثر قراءة