Close ad

أربعة وجوه للحداثة المصرية

8-7-2020 | 14:37

الشائع وربما المتفق عليه أن مصر الحديثة بدأت مع عهد محمد على فى 1805؛ بعض المؤرخين ربما يأخذها خطوة إلى الخلف مع الحملة الفرنسية وما جاءت به من وصف مصر والمجمع العلمي، وبالطبع المطبعة ذات الحروف العربية. سواء كان الأمر هذا أو ذاك فإنها فترة ارتجت فيها مصر مستيقظة على العصر الحديث خارجة من عصورها الوسطى الخاصة بدولة المماليك وبعدها العثمانيين. كانت النقلة كبيرة من القديم إلى الحديث، ومن التقليدية إلى الحداثة؛ وكلاهما ليس وصفا ساكنا وإنما هما عملية ديناميكية لها آلياتها المستمرة. وفى عصرنا هذا فإنها مرحلة يوجد داخلها آليات تقدمها وانتقالها إلى حال آخرى، وهى ما تسمى عملية التحديث أو Modernization وهى التى تقودنا إلى الحداثة Modernity.

كيف نصل إلى هذه الحالة العجيبة التى تفارق التخلف وتصل إلى التقدم، حسب ما جاء فى الأسفار الأكاديمية يقوم على أربع عمليات متشابكة ومتبادلة التأثير: أولاها الهوية، وثانيتها الاختراق، وثالثتها التعبئة، والرابعة التنشئة. لكل منها دور مهم فى بناء الدولة الوطنية الحديثة، فالهوية هى التى تحدد الجماعة السياسية وتميزها عن جماعات أخري؛ وتخرج بها من الأطر الإمبراطورية التى تذوب فيها جماعات وهويات مختلفة تحت لواء الدين أو رابطة القانون أو زعامة من نوع خارق أو حضارة غالبة. والاختراق له جانب جغرافى حينما تصل الدولة إلى حدودها وتكفل السيطرة على جميع أرجائها؛ وجانبها الآخر ديمغرافى حينما يصل القانون وطاعته إلى جميع مواطنى الدولة. والتعبئة تكون لموارد الدولة البشرية والمادية، هى عملية الاكتشاف والسيطرة لما لدى الدولة من ثروات وتنميتها وإدارتها لتحقيق أهداف المجتمع فى التقدم والسعادة أيضا. والتنشئة هى نقل القيم والتقاليد الخاصة بالدولة من جيل إلى آخر من خلال الأسرة والتعليم ووسائل الإعلام والفنون والآداب المختلفة.

بالطبع كل ما سبق ليس ترديدا لدرس من دروس العلوم السياسية وإنما هو محاولة لشرح ما يحدث فى مصر، لأن التذكرة بهذه المصطلحات سوف يضع ما يحدث فى إطاره الصحيح. وبشكل ما فإن هذا الإطار يعيد فهم تاريخ مصر الحديث الذى قامت معادلته على الخروج من العصور الوسطى وهو ما نجحنا فيه وأحيانا بقسوة مبالغ فيها خلال القرن التاسع عشر؛ ولكن الدخول إلى الحداثة مع القرن العشرين، ومن بعده عقدين فى القرن الذى يليه، كان صعبا ومترددا، وأحيانا خرجنا فيه عن المعادلات الأساسية للوحدة السياسية التى نعيش فيها دولة ومجتمعا.

 

كان الخروج من الخلافة العثمانية فعليا حتى ولو بقى اسميا حتى عام 1914 مع الحرب العالمية الأولى ومع سقوط الخلافة عام 1924، كان من ناحية أخرى ميلادا للدولة المصرية التى جرى بعثها تدريجيا بالاكتشافات التاريخية الكبرى لفترتها الفرعونية، أو ثلاثة آلاف عام من الشخصية المتميزة لمصر والمصريين. هذه الهوية تعرضت للاضطراب مرتين: مرة تحت راية القومية العربية, ومرة تحت راية الإسلام. صحيح أنه جرت محاولات مضنية للربط والتشابك وتأكيد عدم التناقض والانسجام التام، إلا أن الواقع كان دائما ملتبسا يعكس نفسه على وقائع مريرة وهزائم كان يمكن تجنبها. كان الرئيس السادات هو الذى بدأ رحلة العودة إلى مصر مرة أخرى صافية ونقية, واليوم مع الرئيس السيسى وشعاره تحيا مصر وحديثه المستمر للمصريين للاستماع والإنصات. دعوته إلى تجديد الفكر الدينى لم يكن خروجا على الإسلام وإنما وضعه داخل الرداء المصرى الذى عرف منذ الأزل أن للكون خالقا عظيما، وعرف الدنيا والآخرة، وعرف الحساب الذى يقود للجنة والنار، وعرف أن الله جل جلاله حملنا رسالة العمران فى أرضه، وفى الكون الفسيح من بعده.

الاختراق هو عملية الوصول إلى الحدود، ورغم طول عمر مصر ككيان سياسي، ودولة فى ألفيات من السنين، فإن حدودها التى نعرفها الآن كانت تلك من جزيرة فرعون فى شمال خليج العقبة إلى النوبة فى الجنوب، وظلت على حالها رغم تعاقب الغزاة والمستعمرين. الاختراق الجغرافى لمصر اختلف من عصر إلى آخر، ولكن الأغلب فيه أن ما تحقق فى العصور الفرعونية والرومانية من انتشار يمتد إلى سيوة غربا، وموانى البحر الأحمر شرقا، تراجع فى عصور أخري، وباتت مناطق كثيرة فى الصحراوات منافى ينفى لها من يستحق العقاب. انكمش الناس نحو وادى النيل الضيق. الأخطر وفى أزمنة قريبة أن قانون الدولة خضع لمعادلات سياسية تغض فيها الدولة بصرها عن القانون مقابل طاعة مظهرية. صحيح جرت محاولات لاختراق الصحراء، ولكن الاختراق ظل دائما بعيدا عن شمول كل الحدود، ووصول يد القانون إلى كل المواطنين. المرحلة الراهنة من التنمية المصرية هى الاختراق إلى كل الحدود المصرية، وإحضار الصحراء إلى الوادى وذهاب الوادى إلى الصحراء، هى العبور من النهر إلى البحر بالطرق والجسور والأنفاق، وإعلاء كلمة القانون التى لا تقبل بعشوائيات ولا مخالفات الحدود الواجب مراعاتها.

التعبئة كثيرا ما أشرنا إليها فى باب إدارة الثروة كبديل لإدارة الفقر، ولكن ذلك ليس الأمر كله، فهناك الثروة التى تأتى من اتساع نطاق الجغرافيا إلى السواحل وما وراءها لكى يأتيها سائحون وتحصل على الذهب والبترول والغاز، وجوهرها العملى هو الاستثمار فى جميع أنحاء المعمورة. هى التنظيم للقدرات والاستراتيجيات التى تأخذ من الوطن أفضل ما فيه بشرا وثروة. وهى ترتبط ارتباطا وثيقا بالتنشئة، حيث تحديث التعليم بالجامعات الجديدة، والتدريب على القيم والتقاليد ونقلها من جيل إلى آخر، وأكثر من ذلك على حشد الموارد حيث تكون فى المحليات والأقاليم. هى زواج القوة المادية الصلبة والخشنة مع القوة الناعمة والقوة الذكية التى تربط التعليم مع الإعلام والفنون والآداب فى وحدة صلبة للإبداع والابتكار. كل هذه الجبهات يوجد لها فى مصر أصول، ولكنها فى كثير من الأحوال لا تدرك أن لكل منها وظيفة مختلفة عن الأخري، فيجهض الإبداع داخل وظائف أخلاقية قد يكون مكانها مؤسسات دينية أو الأسرة، أو يختلط الفن بالتاريخ. وضوح الحدود بين الوظائف الاجتماعية المختلفة هو فى النهاية عنوان الحداثة.


نقلا عن صحيفة الأهرام

كلمات البحث