Close ad

المتن المقدس والمتون البشرية (7)

28-6-2020 | 14:27

يجب تأسيس علاقة جديدة نقدية تفاعلية مع المتون البشرية، تقوم على الديالكتيك بين التراث والواقع المعاصر والمنهجيات العلمية الجديدة في حدود العقل النقدي، وإعادة فهم المتن المقدس في نقائه الأصلي بعيدا عما علق به من إسقاطات بشرية مقيدة بظروف عصرها، من خلال تطوير علوم الدين بوصفها علوما بشرية يجري عليها ما يجري على البشر من تطور.

وهذه ليست قطيعة معرفية تامة مع المتون البشرية التي تشكلت في التراث ولاتزال عاملة في الواقع سلبا وإيجابا، فالقطيعة المعرفية التامة هي الوجه الآخر لعملية التكفير التي تقوم بها الجماعات المتطرفة، إنها القفاز نفسه ولكنه مقلوب!

ولابد من خلع هذا القفاز كلية وتجاوز التراث الذي قام على هذه العملية في التفكير والتكفير، ندعو إلى تجاوز الماضي، لكنه ليس التجاوز بالمعنى المتداول المعروف في الثقافة السائدة الذي يعني الخصام والترك والهجر والإلغاء والحذف للتراث كله دفعة واحدة، بل معناه القطيعة الابستمولوجية مع طرق التفكير التقليدية المسيطرة عليه، ونبذ العناصر الهدامة فيه، وترك معارك الفتنة، وإلغاء العناصر الأسطورية والخرافية والرجعية، وحذف كل مرجعيات التطرف والتعصب والجمود، ومحو كل فكر بشري يزعم القداسة...إلخ.

وهنا يعني (التجاوز)القطيعة الابستمولوجية مع كل العناصر الصراعية والهدامة القديمة والجديدة، وفتح طريق ثالث لمُركب جديد بالمعنى العلمي لمصطلح (التجاوز)، وليس بالمعنى الذي يفهمه العامة خطأ. والملفت أن بعض العلماء يفهمون مصطلح (التجاوز) بالمعنى المتداول، وليس بالمعنى العلمي والاصطلاحي، ولا بالمعاني الأخرى الإيجابية في اللغة. فالتجاوز له معان بالغة التنوع في اللغة وفي الاستخدام، منها ما نقصد إليه علميا، ومنها ما لا نعنيه مطلقا، والمعنى المقصود دوما يتحدد بالسياق. ودوما سياقاتنا في الكتابة تعني جانبا كبيرا من معاني الكلمة سواء في معاجم اللغة أو معاجم العلوم الإنسانية والاجتماعية، ومن هذه المعاني اللغوية:(تجاوَزَ الموضعَ)، جازه، أي سار فيه وقطعه، وسلكه حتى وصل إلى ما بعده.ويمكن أن يدرك هذا المعنى من اطلع على تحقيق كاتب هذه السطور لأكثر من أربعة وعشرين كتابا من كتب التراث منشورة في حقبة الثمانينيات من القرن الماضي، فالتراث مكون من إنتاجه العلمي، لكنه ليس الحاكم لتفكيره على نحو مغلق، وتحقيقه للتراث لم يأت تسليما مطلقا، كما لم يأت هدما مطلقا، بل جاء نقدا يميز بين الإيجابي والسلبي بمعيار الوحي في نقائه الأصلي وبمعيار العقل العلمي الصريح، وفي ضوء تعدد وتنوع مراكز ومرجعيات الفكر.

وهذا المعنى يمكن أن يجرنا إلى معنى آخر في اللغة، وهو الموجود في عبارات تأتي في المعاجم اللغوية، وهي (تجاوز الأربعين)،أي أتمّها وزاد عليها، و(تجاوز السَّيارة الَّتي أمامه)، أي تقدّم عليها، و(تجاوز العقبات)، أي تغلّب عليها، و(تَجَاوُزُ عَتَبَةِ البَيْتِ)، أي تَخَطِّيهَا. ومن يتخطى شيئا لابد أن يكون قد مر به.

وكل هذه المعاني إيجابية، وليست هي المعاني الوحيدة الإيجابية؛ لأن السياقات دوما تفتح المجال للمجاز والمعاني المتجددة، وهذا ما سوف نوضحه عند التوقف لاحقا عند المعنى الاصطلاحي الذي نستخدمه لمصطلح (تجاوز التراث) بمعنى خاص للكلمة. وفي كل الأحوال ليس من المعاني المقصودة: الهجر والترك والنبذ إذا كنا نقصد التراث كله؛ فالتراث به الإيجابي وبه السلبي، وبه الحي وبه الميت، وبه البنّاء والهدّام، ولا يصح التعامل مع التراث ككتلة واحدة سواء بقبوله كله دون تمحيص أو بهجره كله دون تمييز، فالتعامل مع الظواهر بمنطق أرسطو ( إما أبيض أو أسود ولا ثالث بينهما)، هو تعامل خاطئ مع الواقع الحي المتغير ومع الطبيعة المتعينة والمتغيرة، وهو منطق طفولي قاصر، يجب تجاوزه إلى منطق أكثر شمولا وأكثر قدرة على التمييز، منطق يسير في الطريق الثالث الأكثر قدرة على النظر من زوايا متعددة، منطق التنوع وتعددية الصواب، وإن شئت المنطق متعدد القيم؛ حيث نتجاوز التفكير التقليدي الذي يحصر الاختيار بين طرفين لا ثالث لهما حسب قانون أرسطو في مبدأ الثالث المرفوع middle Excluded، الذي يجزم بأن أية قضية(ق v ~ ق)، بمعنى أن أية قضية (إما أن تكون صادقة أو كاذبة ولا ثالث بينهما)، والذي سيطر طويلا على طرق التفكير بما فيها طرق تفكيرنا القديمة والمعاصرة التي سببت الفتنة ولا تزال.

وبخلاف أرسطو، وبخلاف المنطق الذي حكم طرق تفكيرنا قديما وحتى الآن، فلا يزال هناك طريق ثالث أو قيمة ثالثة أو قيم متعددة. ومن هنا ليس - فقط مطلوبا منا أن نتجاوز طريقة التفكير التقليدية التي سيطرت ولا تزال، بل المطلوب أيضا أن نغير منهجنا في التعامل مع التراث، ولا نقول مثل الأخوة الأعداء:(إما أن يكون التراث كله صوابا، أو التراث كله خطأ، ولا ثالث بينهما)، بل يجب أن نستخدم طرق الفحص النقدي في التراث ومتونه البشرية لتمييز الإيجابي من السلبي، ومن ثَّم نتجاوز التفكير التقليدي ونتجاوز معارك الفتنة إلى طريق ثالث جديد.

وفي نطاق التحليل اللغوي لمعنى كلمة (تجاوز)، يمكن القول أيضا إن معناها الوارد في السياق القانوني الحرفي، من المعاني غير المقصودة في منهجنا في التعامل مع التراث، حيث تشير المعاجم اللغوية إلى أن (تجاوز القانون) معناه: خالفه، خرج عليه بالمعنى السلبي. وليس هذا معنى مقصودا أيضا في سياق منهجنا مع التراث. وتجاوز القانون سلبي بهذا المعنى الحرفي، لكن ثمة معنى إيجابي يلجأ إليه بعض القضاة المنفتحين في ظروف معينة، عندما تدعو العدالة بمفهومها الشامل إلى تجاوز (المعنى الحرفي) للقانون إلى (روح القانون) وتجاوز (الحرف) إلى (مقاصد المشرع). وهذا معنى مقبول تماما، بل مطلب ضروري لتحقيق العدالة، وهذا أحد المعاني التي يمكن توظيفها في منهجية التعامل مع التراث والمتون البشرية بتجاوز (المعاني الحرفية الجزئية) فيها إلى (مقاصد الشرع الكلية) التي حددها الوحي في نقائه الأصلي. فهو (تجاوز) للمتون البشرية نحو المتن المقدس، وهو أيضا (تجاوز) لها نحو المصالح المتجددة وما ينفع الناس في الأرض وفق ظروف العصر ومتغيراته، وهو (تجاوز) لها نحو تطوير العلوم وارتقائها دون التجمد، وهو (تجاوز) للتقليد نحو الاجتهاد.

ومن المعاني اللغوية أيضا: (إِغْضَاءُ الطَّرْفِ)، بالمعنى الموجود مثلا في (التَّجَاوُزُ عَنِ السَّيِّئَاتِ):أي إِغْضَاءُ الطَّرْفِ عَنْهَا. وهنا يكون معنى (التجاوز) في منهجنا مع التراث، هو إغضاء الطرف عن العناصر السلبية منه ومحوها وحذفها ورفعها تماما من حاضرنا وطرق تفكيرنا. وأيضا ليس المقصود الإفراط، وهو من معاني هذه الكلمة كما يقال: (تَجَاوُزُ الحُدُودِ): أي الإِفْرَاطُ.وتجاوَزَ في الشيء: أفرط. وليس كذلك المعنى في عبارة (تجاوز الضّوءَ الأحمرَ): أي مرّ دون التوقّف عنده.

إذن فإن (تجاوز التراث) حسب جانب من معاني اللغة، يعني:جازه، أي سار فيه وقطعه، وسلكه حتى وصل إلى ما بعده.وتجاوز التراث يعني أيضا المعنى الموجود في التطور الزمني للعمر: أي أتمّه وزاد عليه. وأيضا المعنى الذي يقصد إلى التَخَطِّي، ومن يتخطى شيئا لابد أن يكون قد مر به. فهذا ليس هجرا ولا تركا لكل شيء دون تمييز، بل هجر وترك للعناصر السلبية والهدامة والرجعية، وقطيعة ابستمولوجية مع طرق التفكير المغلقة والتعصب والتطرف، وإغضاء للطرف عنها، وإزاحة لها ، وقطيعة مع المنطق ثنائي القيم نحو المنطق متعدد القيم. إنه تجاوز للحرف نحو مقاصد المتن المقدس الكلية، وتجاوزبالمعنى النقدي الذي لا يقف عند المتون البشرية زاعما قدسيتها، وتجاوز للمعارك والفتن ونصوص التطرف. إنه تجاوز للمتون البشرية، يمر بها، ويأخذ الإيجابي منها، ولكنه يسير إلى ما بعدها صانعا متنا بشريا جديدا قابلا بدوره للنقد.

وإذا كانت كل تلك المعاني إيجابية، فلابد أن نذكر أن الأغلب في ثقافتنا هو توجيه الفهم فقط إلى المعاني السلبية للكلمة. وهي المعاني التي يجب أن نتجاوزها أيضا إلى المعاني المفتوحة والمتجددة، ومن هنا مطلب تجديد اللغة؛ لأن تجميدنا لها أحد أهم أسباب سوء فهمنا لبعضنا البعض، وهو أحد أسباب جمود تفكيرنا، ولا يمكن لتفكيرنا أن يتطور بدون تطور اللغة.

نقلا عن صحيفة الأهرام

كلمات البحث
اقرأ أيضًا:
ضد التصور الأسطوري للمرأة (9)

رأينا فى المقالات السابقة كيف أن الخطاب الدينى البشرى التقليدى تجاوز فى كثير من الأوقات حدود الوحى فى تفسيره للوحي، وأهدر السياق فى فهمه للقرآن الكريم،

ضد التصور الأسطوري للمرأة (8)

هل تجاوز الخطاب الديني البشري التقليدي حدود الوحي في تفسيره للقرآن الكريم؟ وكيف استخدم التصورات والقوالب النمطية المتوارثة من بعض الأعراف الاجتماعية أو من قصص الأولين دون أسانيد من الوحي الكريم؟

ضد التصور الأسطوري للمرأة (7)

يظهر لنا يوما بعد يوم بطلان طريقة التفكير القائمة على إصدار أحكام عامة دون تمييز، تلك الطريقة التى نجدها فى الخطاب الدينى البشرى التقليدي، والتى تكرر الأنماط

ضد التصور الأسطورى للشيطان (11)

سوف تستمر المعتقدات المزيفة طالما ظل يتمسك البعض بإتباع الفرق وتقديس الرجال، وسوف يستمر الإيمان بالأباطيل طالما يصر بعض المتحدثين باسم الدين على التمسك

الأكثر قراءة