مثلما شهد القرن العشرون حربا باردة بين الاتحاد السوفيتى السابق، بقيادة المعسكر الشرقي، وبين الولايات المتحدة، بقيادة المعسكر الغربي، انتهت لصالح الأخيرة وانهيار الاتحاد السوفيتى وتفكك دوله وانهيار حلف وارسو، فإن القرن الحادى والعشرين سوف يشهد حربا باردة بين أمريكا والصين، لكنها حرب باردة بمفاهيم مختلفة عما سادت فى القرن العشرين.
الحرب الباردة بين الاتحاد السوفيتى وأمريكا كانت ترتكز على أسس أيديولوجية والصراع بين الشيوعية والليبرالية بشقيها الاقتصادي«الرأسمالية» والسياسي، «الديمقراطية»، إضافة إلى توازن الرعب النووى والذى منع الصدام المسلح بين الكتلتين، أما الحرب الباردة الجديدة بين أمريكا والصين، فهى ترتكز بالأساس على أسس اقتصادية وصراع المصالح والنفوذ فى العالم. جوهر الصراع الأمريكى الصينى هو صراع على بنية النظام الدولى فى شقه السياسى والاقتصادى والعسكري، فالصين ومعها روسيا تسعيان لإقامة نظام دولى سياسى متعدد الأقطاب، حيث يعتبران أن النظام الدولى الأحادى القطبية الذى ساد بعد الحرب الباردة بقيادة الولايات المتحدة قد أدى إلى اضطراب وعدم استقرار فى العلاقات الدولية وتصاعد الأزمات الدولية والصراعات والحروب الأهلية، إضافة إلى انتشار مخاطر الإرهاب، ومن ثم يعتبران أن إقامة نظام دولى متعدد يقوم على تحقيق التوازن بين القوى الكبرى بما يسهم فى تحقيق الاستقرار العالمي، بينما تقاوم الولايات المتحدة هذا التوجه الصينى الروسى وتتشبث بسيطرتها الاقتصادية والسياسية والعسكرية على النظام الدولي.
الصين تسعى منذ عقود لاستكمال كل مقومات القوة الشاملة التى تؤهلها لأن تكون قطبا دوليا بارزا فى النظام الدولي، فمن الناحية الاقتصادية استطاعت أن تحتل المكانة الاقتصادية الثانية بعد أن أزاحت اليابان، وأصبحت القوى الاقتصادية الأولى المنافسة والمهددة للولايات المتحدة، فحجم التبادل التجارى بين البلدين يصل إلى 650 مليار دولار، يتضمن عجزا تجاريا بقيمة 400 مليار دولار لصالح الصين، وهو ما دفع إدارة الرئيس ترامب لإعلان الحرب التجارية العام الماضى على الصين وفرض رسوم جمركية على العديد من السلع والمنتجات الصينية مثل الصلب والألومنيوم وغيرهما متهمة الصين بانتهاك حقوق الملكية الفكرية، وردت الصين بفرض رسوم جمركية على العديد من السلع الأمريكية خاصة المنتجات الزراعية مثل فول الصويا وهو ما تسبب فى ضرر كبير للاقتصاد الزراعى الأمريكى يهدد قاعدة ترامب الانتخابية خاصة فى تكساس، مما دفعه إلى التفاوض مع الصين على اتفاق تجاري، حيث نجح البلدان فى التوصل إلى اتفاق مرحلى يتضمن زيادة استيراد الصين للسلع الأمريكية لتخفيف العجز التجاري، لكن يظل الاتفاق النهائى بينهما يواجه تحديات كبيرة.
ومن الناحية السياسية، فإن الصين أخذت تلعب دورا فاعلا على المستوى الدولي، فقد تخلت عن مبدأ الحياد الذى كانت تتبعه فى مجلس الأمن الدولى باعتبارها دولة دائمة العضوية، وكان سلوكها التصويتى دائما يتمحور حول الامتناع عن التصويت، باستثناء التصويت المرتبط بالقضايا والأزمات المرتبطة بها مباشرة مثل ملف تايوان وكوريا الشمالية، وأخذت تستخدم حق الفيتو بشكل متزايد فى العديد من الأزمات الأخرى مثل الأزمة السورية والملف النووى الإيرانى وذلك لاعتبارات تتعلق بمصالحها ونفوذها المتصاعد فى الشرق الأوسط، وأصبحت بكين فاعلا بارزا فى العديد من الأزمات والصراعات، وبل تسعى لقيادة العالم فى العديد من الملفات مثل قضية التغير المناخى بعد انسحاب الولايات المتحدة من اتفاقية باريس، كما سعت لإقامة العديد من التحالفات السياسية الدولية مع روسيا وفرنسا وغيرها لموازنة الدور الأمريكى، سواء فى الشرق الأوسط أو فى شرق وجنوب شرق آسيا.
ومن الناحية العسكرية فإن الصين زادت من إنفاقها العسكرى بشكل كبير ارتفع لأكثر من 300 مليار دولار العام الماضي، واستطاعت أن تطور العديد من الأسلحة المتطورة من الصواريخ الباليستية وحاملات الطائرات والمقاتلات، وأصبح للصين وجود عسكرى فى الفضاء منافس للوجود الأمريكى والروسي، وقد أثارت القدرات العسكرية الصينية المتصاعدة حفيظة الولايات المتحدة التى انسحبت من العديد من الاتفاقيات العسكرية خاصة مع روسيا مثل اتفاقية الصواريخ النووية القصيرة والمتوسطة المدى ومطالبتها بأن تنضم الصين إلى تلك الاتفاقيات العسكرية التى أبرمتها مع روسيا.
فى المقابل فإن أمريكا تعتبر أن الصين هى الخصم والمنافس الاستراتيجى الأول لها، إضافة إلى روسيا، كما ورد فى إستراتيجية الأمن القومى الأمريكى الأخيرة، كما أن كل الأدبيات النظرية وتوصيات مركز الأبحاث الأمريكية تعتبر أن الصين هى المهدد الأساسى للنفوذ الأمريكى اقتصاديا وسياسيا، ولذلك تكرر الحديث فى الإدارات الأمريكية المتعاقبة، خاصة منذ إدارة بوش الابن وأوباما عما يسمى إعادة التموضع، والانسحاب التدريجى من الشرق الأوسط والانتقال لشرق آسيا لمواجهة واحتواء الصين. مستقبل الصراع الأمريكى الصينى سيحسمه الاقتصاد، والذى بدوره يقود السياسة، والغالب أن البلدين سيتجهان لتعايش المصالح الاقتصادية فى ظل تشابك اقتصادهما بشكل كبير، كما أن الصدام او الانفصال الاقتصادى كما هدد ترامب، لن يكون فى صالح أى منهما. خاصة فى ظل أزمة كورونا والتى كانت لها تداعيات سلبية اقتصادية كبيرة على كلا البلدين، تفرض ضرورة التعاون والتعايش وليس الصدام أو تأجيج حرب باردة جديدة ستؤثر سلبا على العالم كله.
نقلا عن صحيفة الأهرام