تتألم القلوب، ويتساقط الدمع، وتضطرب المشاعر عند سقوط الضحايا والشهداء بسلاح الغدر والخيانة، ولا تبنى الأمم ولا تنهض إلا بدماء الشرفاء المخلصين، وصفحات التاريخ حبلى بالكثير من تضحيات الأوفياء في سبيل العقيدة والأوطان، وأعظم تشريفٍ لهم ترديد الأجيال بذكراهم على مر العصور، وبهذا يتحولون إلي رموز للأجيال تمنحهم الصمود والقوة.
ومن أروع نماذج الفداء في تاريخنا الإسلامي، والتي رفعت شأن أمتنا، ما حدث في غزوة مؤتة وذلك بعد مقتل مبعوث رسول الله على يد الروم، وأعلن الرسول الحرب عليهم في شمال شبه الجزيرة العربية، وسلم الرسول قيادة الجيش لأربعة قادة فإذا أستشهد أحدهم تسلم الآخر زمام القيادة، وكان من بينهم البطل والصحابي الجليل جعفر بن أبي طالب، ويعد من أوائل من اعتنقوا الإسلام، وكان يلقب بأبي المساكين لشدة عطفه عليهم.
وفي مؤتة اشتد القتال، ولقي ثلاثة آلاف جندي مسلم مائتي ألف مقاتل من الروم، وبعد سقوط القائد زيد بن حارثة وهو حب رسول الله، أخذ الراية جعفر بن أبي طالب، وصار كالفراشة يقاتل بشكل منقطع النظير، حتي قطع الأعداء يمينه، فحمل الراية بشماله، ولم يزل حتى قطعت شماله، فأحتضن الراية بعضديه، ومازال رافعا الراية حتى لقي ربه، ولما عرف رسول الله "صلى الله عليه وسلم" قال: "إن الله عز وجل أبدله بيديه جناحين يطير بهما في الجنة حيث شاء".
والمتأمل في مشهد القتال تثيره الدهشة، وبعيدًا عن شدة التأثير المؤلم للنفس البشرية، أن البطل جعفر رضي الله عنه لم ينهار بعد بتر يديه اليمني، بل يصمد ويستمر بعد قطع يده الأخري، ولم تخر قواه، ولا تضعف عزيمته، والسؤال ما السر في هذا الإعجاز من الصمود الذي لا يستطيع عقل استيعابه؟ والإجابة عندما يتمكن حب الإيمان بالعقيدة وبالوطن بالشخص، يصير المحب فكرة سامية تنبض بالعزيمة، وتحركه بقوة ويغفل أمامه أي شيء في مقابل النصر.
والتضحية هي السبيل الوحيد للحفاظ على الأمانة، ولفظ التضحية يعني بذل النفيس والغالي، وبها يفوز صاحبها برضوان الله تعالى وجنته، وبفضلها تحيا الأوطان، ولا يقبل أي عاقل مخلص سماع نداء الواجب ويتراجع عن تلبية نداء التضحية.
ولا تقتصر التضحية على بذل النفس، وإنما تتضمن بذل المال والعلم لبناء أمة شامخة، ويتجلى هذا المغزى خلال مسيرة الهجرة النبوية في مواقف العديد من الصحابة عن طريق بذل ما يملكون وتقديمه للنبي من أجل نجاح الهجرة، وقال تعالى: "لن تنالوا البر حتى تنفقوا مما تحبون".
ولنا في رسول الله الأسوة الحسنة، فما ترك معنى من معاني التضحية والفداء إلا وقدمه، وتحمل بنفس هادئة وراضية شتى أنواع الأذى والاضطهاد، وعلى نهجه تسابق المؤمنون في مضمار البذل والعطاء، وكلما كانت الغايات كبرى والأهداف نبيلة تعاظم ثمن العطاء.
Email:khuissen@yahoo.com