بعيداً عن مسلسل "الاختيار" الذى قدم لنا نموذج التضحية والفداء والعطاء لمصر، ممثلاً في بطولة العقيد أركان حرب "أحمد منسي"، وبعض المسلسلات الكوميدية والرومانسية التي تابعها ملايين المشاهدين المصريين والعرب خلال شهر رمضان المبارك، أرى أن المسلسلات الأخرى ومنها: "البرنس" و"خيانة عهد" و"الفتوة" وغيرها يمكن أن نصنفها بأنها كانت "دراما الغابة" حتى وإن رأى البعض أنها تعبر عن واقع الحال، وتعرض صورًا تحدث في مجتمعاتنا بالفعل.
وما أقصده بدراما الغابة هو أن هذه الدراما، التي التف الناس حولها صورت الحياة بوصفها غابة لا قانون فيها، وأن شريعة "الغاب" هي التي تحكم وتتحكم في سلوكيات وتصرفات البشر، وأن القانون لا يلجأ له سوى الضعفاء، أو البسطاء الذين لا حول لهم وله قوة، وأكدت ليست فقط نهايات هذه المسلسلات، بل كل أحداثها من البداية أن القوة والذراع هو الأساس في صيانة الحقوق، وكرست مبدأ الانتقام والثأر الذى نرفضه جميعاً ونحاربه بكل قوة.
والخطير في تلك التيمة أو الفكرة التي روجت لها تلك المسلسلات أن الفنانين الذين جسدوها على الشاشة للناس برعوا في التشخيص وتألقوا في أداء شخصياتهم، إلى الدرجة التي جعلت المشاهدين يتعاطفون معهم، وهنا مكمن الخطورة في تأثير مثل هذه الأعمال الدرامية، وتشبع الجمهور بما تعرضه، حتى ولو بشكل غير مباشر.
وسأكتفى هنا بشرح تأثير وما جاء في تفاصيل مسلسلى" البرنس" و" خيانة عهد"، الأول أنتجته إحدى أهم وأكبر شركات الإنتاج،وتألق في كتابته المخرج محمد سامى - الذى يُعد حالياً أحد هم المخرجين على الساحة الفنية- مستوحياً فكرته الرئيسية من قصة سيدنا يوسف، وقام بالتمثيل فيه مجموعة جسدت أدوارها بكفاءة وفعالية، بدءً بمحمد رمضان الذي يتفوق في تجسيد الأدوار الشعبية، مروراً بأحمد زاهر، وإدوارد وروجينا وحتى الأطفال، حبكة المسلسل الأساسية تدور حول الطمع والجشع وانعدام الضمير والسكوت عن الحق، وإغماض العيون عن الباطل والتماشي معه، وتفشى العلاقات المحرمة ومنها زنى المحارم، والكسب غير الحلال من الاتجار في المخدرات، وموت صلة الرحم، والعداوة بين الإخوة والأخوات، وتغذي حكايته فكرة أخذ الحق بالقوة أو الذراع والمكيدة، وعدم اللجوء إلى القانون، كل ذلك رأيناه وعشناه بتفاصيله في كل أحداث المسلسل، وعلى مدار 30 حلقة.
وبرغم أن نهاية المسلسل أعادت الحق إلى أصحابه، وانتهت بالنهاية السعيدة، التي تعودنا عليها في أعمالنا العربية، إلا أنها سوغت لنا كل عمليات القتل والانتقام طوال تلك الرحلة الطويلة من ارتكاب الأخطاء والموبيقات، ولم يكن القانون حاضراً سوى في مشاهد قليلة، وحتى هذه المشاهد أوحت إلى المتفرج أن القانون لا قلب له، ولا رحمة وأن العدالة يمكن خداعها، وأن عيونها قد تكون "عوراء" أحياناً، وأن قانون "الغابة" هو الأكثر تأثيراً والأسرع وصولاً في أخذ الحق!! وهذه فكرة خطيرة جداً لو تركناها تتفشى وتتفاقم في مجتمعنا، خاصة وأن هذه النوعية من الدراما تجذب قطاعا كبيرا ممن لا يفكرون بعقولهم، وإنما ينساقون وراء مشاعرهم وانفعالاتهم، وتأخذهم جماهيرية البطل الشعبى فقط.
وإذا ما ذهبنا إلى مسلسل "خيانة عهد" نجد نفس الشيء، الشركة المنتجة هي الأخرى شركة كبيرة، وفرت للمسلسل كل توابل الجذب الجماهيرى، والتأثير في المشاهد، من قصة وسيناريو وحوار كتبها فريق في غاية الاحتراف: أحمد عادل، وأمين جمال، ووليد أبو المجد، ومحمد أبو السعد، ومخرج متمكن من أدواته وسبق وقدم العديد من الأعمال الدرامية المتميزة وهو سامح عبدالعزيز، وأداء الفنانة يسرا "عهد"، التي تثبت في كل عمل أنها تستحق لقب "مَلِكة" الدراما المصرية بجدارة وكذلك كل طاقم التمثيل في المسلسل خاصة الوجوه الجديدة التي فاجأتنا بأدائها المحترف.
ورغم أن فريق الكتابة لم يشر إلى أنه اقتبس العمل عن قصة سيدنا يوسف، إلا أنه يأخذ نفس خط "البرنس" وهو خط الغيرة والحقد والانتقام الذى سيطرعلى معظم إن لم يكن كل حلقات المسلسل، مع أن قصص العداوة والانتقام بين الإخوة ليست بجديدة، فقد عرضت هذه الفكرة في كثير من الأفلام والمسلسلات العربية، لكن الجديد هنا هو الرموز والاستعارات الدرامية، التي تعطي المشاهد إشارة بأن هناك حدث ما سيحدث وكذلك وجود البعد الدرامي الذي يقوم عليه المسلسل من خلال كل شخوصه التي أدمنت الحقد والغيرة والخيانة والانتقام.
أكد هذا المسلسل أيضاً سريان قانون الغابة وانعدام صلة الرحم بين الإخوة والأخوات، وقد تجلى ذلك في أكثر من مشهد، ومن تلك المشاهد التي شرّحت واقع أنه عندما تتملك الكراهية والحقد الشخص لا يمكنه التفريق بين البريء والمذنب فهي تأخذ الجميع على حد سواء، هو مشهد "عهد" مع أخيها "مروان" (خالد سرحان) في الشرطة عندما واجهته بسؤال عن ذنب ابنها "هشام" خالد أنور في انتقامهم منه، رد عليها، "الكره ما بيفرقش". وكذلك مشهد أخت "عهد"، "فرح" (حلا شيحة)، مع "شيرين" (جومانا مراد) ـ المرأة اللعوب المدمنة التي وضعتها في طريق ابن اختها "هشام" لإغوائه بإقامة علاقة غير مشروعة معها وتدفعه لتعاطي المخدرات ـ يشير إلى أنها لم تتحمل محبة الناس لها وأيضًا لها ابن يكبر أمامها وهي محرومة من الذرية ويثبت إلى أي مدى من الممكن أن يوصل الحسد والغيرة صاحبهما.
فالدافع الحقيقى للكراهية وأذية إخوة "عهد" لها هو الحسد والغيرة مع أنهم برروا هذه الكراهية بسبب تفضيل والدهم لـ "عهد" ومعاملة زوجة والدهم (أم عهد) السيئة لهم والغبن الذي شعرت به والدتهم نتيجة لذلك.
وهكذا غيب "خيانة عهد" القانون كما غيبه "البرنس"، وهذا ما فعلته دراما "الغابة" التي أراها كالدبة التي قتلت صاحبها دون أن تدرك.
DR.ISMAIL52@GMAIL.COM