حينما هبت مجموعة من الأقلام والأصوات الإعلامية لمواجهة ما طرحه نيوتن، في مقاله الشهير، "استحداث وظيفة"، لم يكن منطلقهم دوافع شخصية أو منافع ذاتية أو تصفية حسابات، بقدر ما كان تحركهم صونًا للأمن لقومي المصري، وذلك على عكس ما لمحت إليه أقلام على صحيفة المصري اليوم فيما بعد.
أقلام تبنت حملة الدفاع عن مقال نيوتن تحت عناوين براقة، مثل "يؤخذ منه ويرد عليه"، و"فضيلة النقاش العام". ومجموعات سكتت، ولم تدل بدلوها في الأمر، وكأنها لا ترى خطورة ما طرح في المقال.
في مقال "نيوتن" الذي فجر القضية، وردت مجموعة من العبارات الخطيرة التي حاول كاتبه تغليفها بعبارات منمقة، أبرزها ما يلي:
- الوظيفة التي أقترحها وأتصدر لها هي "حاكم سيناء"، مدة التعاقد 6 سنوات، متجاوزًا مهام المحافظ، فالمحافظ مقيد بالوزارات المختلفة.
- الوظيفة تتطلب الاستقلال التام عن بيروقراطية القوانين السائدة في الاستثمار، في استخدام الأراضي مثلًا.
- مطلوب الابتعاد عن ميزانية الدولة، لن يجمع الإقليم بالدولة إلا السياسة الخارجية والدفاع المسئول عن حماية البلاد.
- الوظيفة قد يراها البعض طلبًا مغامرًا أو صادمًا، لنعترف أنه شيء يستدعي التفكير، سيئو النية سيصورونه كمؤامرة لتفتيت الدولة.
- لفرادة هذا الإقليم وتميزه، سيكون قاطرة التقدم والازدهار لمصر، بالرغم من الذين يعتبرون سيناء خطًا أحمر، لتظل مهجورة جرداء، أو ملعبًا مفتوحًا للجماعات المتطرفة والصفقات المشبوهة.
- من يتولى هذه الوظيفة، تكون له الحرية لإقامة النظام الأفضل للحكم المحلي، الذي يحقق الاستقرار لهذا الإقليم.
- التجربة يمكن استنساخها في محافظة أخرى، لتصبح انطلاقة قومية جبارة، أما إذا فشلت التجربة، فليس هناك الكثير الذي نبكي عليه.
هذه الأطروحات التي تمثل تهديدًا مباشرًا للأمن القومي المصري، تم تغليفها بحائط صد للحماية، وذلك إذا ما تنبه البعض لخطورة ما يتم طرحه، والذي تمثل في أن سيئي النية سيصورونه كمؤامرة لتفتيت الدولة.
هكذا كتب "نيوتن"، غير أن الغريب أن البعض قد عاود ومازال الدفاع عن هذه الأطروحات، تحت زعم أنها أفكار للتطوير، ولمحاولة مساعدة الدولة في زيادة الاستثمارات، وأن كل ذلك يمكن إخضاعه لفضيلة النقاش العام.
ولم يلتفت هؤلاء إلى أن سيناء لا تمثل كمبوندًا، أو شركة استثمارية، أو مؤسسة صحفية خاصة، أو جامعة خاصة، أو جمعية غير خاضعة للقانون، يتولون إدارتها. بل وأغفلوا أن نيوتن قد ألمح عن صفقات مشبوهة، وكأنه يريد توجيه سهام النقد لمؤسسات الدولة ومتخذ القرار بأنهم مشاركون في ترتيبات ما يعرف بصفقة القرن الأمريكية، تلك الصفقة التي حرصت الخارجية المصرية والمتحدث الرسمي باسم رئاسة الجمهورية على التأكيد مرارًا وتكرارًا، بأن كل ما نعلمه عنها هو ما يتم نشره في الصحف والدراسات والأبحاث الغربية، وأن الدولة المصرية لم تتلق ما يفيد رسميًا بغير ذلك حتى الآن.
في فقرة أخرى أشار "نيوتن" نصًا إلى "الذين يعتبرون سيناء خطًا أحمر، لتظل مهجورة جرداء، أو ملعبًا مفتوحًا للجماعات المتطرفة والصفقات المشبوهة"، هو لم يكتف بأن سيناء ملعبًا للصفقات المشبوهة، بل وجه اتهامات للذين يعتبرونها خطًا أحمر بأنهم يرغبون في ذلك لكي تظل مهجورة، أو ملعبًا مفتوحًا للجماعات المتطرفة، ولو ركزنا في المصطلحات المستخدمة نجد أن هناك ترويجًا لمقولات غربية حريصة على تعميق إحساس المواطن المصري قاطن سيناء بأنه يعيش في صحراء مهجورة جرداء، وهو أمر به تأليب وتعميق لأزمة المواطنة المصرية، وتفسيخًا مفخخًا لعلاقة المواطن المصري في سيناء بدولته، وكأنها لم تلتفت إليه منذ تحرير سيناء واستعادتها لحضن الوطن، وهذه هي الرواية والسردية الغربية المطلوب تعميمها وتعميقها في الوعي العام.
تلك السردية القاصرة عن رؤية قاطرة المشروعات القومية التي تم تخصيصها لتنمية سيناء، بمبلغ يقترب من 800 مليار جنيه مصري، هي الرواية التي ترى أن مصالحها تقتضي غض البصر عما تحقق على أرض الواقع من مشروعات تنموية، وأن يؤدي ذلك إلى مزيد من مشاعر الاغتراب لدي المصريين من قاطني سيناء، ترويجًا للسردية الغربية التي تم ترديدها وتسويقها منذ أحداث يناير 2011، بأن سيناء منذ استعادتها لم تشهد أية تنمية حقيقية للمواطن السيناوي –وليس المصري- كتلك التي حدثت وقت أن كانت تحت الاحتلال الإسرائيلي.
بالإضافة إلى ذلك، نجد مصطلحًا غربيًا آخر وفقًا لتلك السردية التي تتداولها منظمات ومؤسسات حقوق الإنسان، والتي ترفض أن توصف ما يجري على أرض سيناء بأنها مواجهات بطولية بين أبنائنا في القوات المسلحة والشرطة المدنية مع التنظيمات الإرهابية الإجرامية التكفيرية، وتكتفي بالإشارة كما ذكر "نيوتن" بأنها مع جماعات متطرفة، وأحيانًا تقولها صراحة بأنها مع المعارضة المسلحة.
لم يكتف "نيوتن" بذلك، بل كتب نصًا "التجربة يمكن استنساخها في محافظة أخرى، لتصبح انطلاقة قومية جبارة، أما إذا فشلت التجربة، فليس هناك الكثير الذي نبكي عليه"، السيد "نيوتن" يرى أن تجربة سيناء يمكن استنساخها في محافظة أخرى، عن أية محافظة يتحدث هل هي أسوان، أم البحر الأحمر، أم الوادي الجديد؟ ويرى في ذلك انطلاقة قومية جبارة، وهو لم يقل لنا أن هذا المعنى علميًا هو ما يتعارف عليه بـ"الفدرلة"، أو التمهيد للتقسيم والتفتيت.
نماذج الفيدرالية المستقرة في دول كبيرة هي نماذج ناجحة لا شك، ولكن فات "نيوتن" أن هناك دولًا مستهدفة بالتقسيم والتفتيت وفقًا لمشروع الشرق الأوسط الكبير، وأن هذه الدول الكبرى استهدفت منذ أن تم الغزو الأمريكي للعراق، وأن باقي الدول الكبرى قد تم استهدافها ومقدراتها البشرية، والعسكرية، والاقتصادية، والاجتماعية، والسكانية، منذ أحداث يناير والتي أطلق عليها الغرب "الربيع العربي"، وأفضل أن نسميها بعد كل ما مر علينا من أحداث مزقت دولًا عربية كبرى "الربيع العبري".
فات نيوتن أن يهرب من استخدام المصطلحات الغربية والتي هي حاكمة لمنهج المقال، وأبرزها "نظام الحكم المحلي"، وهو مصطلح غير مستخدم في الأدبيات العربية لعلوم الإدارة –خاصة المصرية- التي تستخدم مصطلح "نظام الإدارة المحلية".
فات "نيوتن" أن لا يستخدم علامات الترقيم العربية، تلك التي تميز اللغة العربية عن مثيلاتها، بغرض استيضاح العبارة والمعنى، وظهر ذلك جليًا في استبدالها بالنقطة عقب كل عبارة، وهو أمر يثير علامات شك وريبة كثيرة في منطق وأسلوب الكتابة، وهل هي عربية؟ أم مترجمة؟ أم هي تعكس المنطق والهوى الغربي الحاكم لكاتب المقال؟
كل ما سبق، استدعته الذاكرة مع قيام توكل كرمان بتدوين تغريدة على موقع التواصل الاجتماعي "تويتر"، والتي حذفتها لاحقًا وعرضتها من خلال خاصية الـ"اسكرين شوت" الإعلامية منتهى الرمحي على قناة العربية، قالت فيها نصًا كل ما يلخص مقال "نيوتن" عن سيناء، ولكن مع استهداف بلد عربي آخر –المملكة العربية السعودية- نجاه الله وحفظه من محاولة أن تطاله نيران "الربيع العبري"، تلك النيران التي حاولت استهداف المنطقة الشرقية للمملكة وسهل الإحساء في الجنوب الشرقي للمملكة.
حيث نصت كرمان -تلك الناشطة اليمنية التي ساهمت في تدمير وطنها اليمن، وتم تكريمها بحصولها على جائزة نوبل للسلام، ومؤخرًا باختيارها ضمن الهيئة الدولية التي شكلتها إدارة فيسبوك لمراجعة والنظر في الشكاوي التي ترد في المحتوى العربي على موقعي التواصل الاجتماعي فيسبوك وانستجرام- على ما يلي:
"نحن لا نقصد انفصال السعودية إلى دويلات، حسب تنوعها الطائفي، والعشائري، والجهوي، بل إقليما في المنطقة الشرقية، وآخر في الجنوب، وثالث في الشمال، ورابع، وخامس..، يستقل كل منها إداريًا مثل الاتحاد الروسي، تجمعها حكومة فيدرالية مؤقتًا، ثم يأتي التصويت على الاستقلال بحسب رأي شعوب تلك الأقاليم".
هكذا أجابت "كرمان" عن المسكوت عنه في مقال "نيوتن"، هي انطلقت وفقًا لمنطق صاحب التوجيه باستباق التحصين، فهي لا تهدف إلى انفصال السعودية، ولكنها تهدف لإعطاء الحقوق للمواطن السعودي حسب التنوع الثقافي، والعشائري، والجهوي، بحيث تتم التجربة الفيدرالية، وبعد نجاحها يتم التصويت والاستفتاء على الاستقلال.
"كرمان" كانت أكثر شجاعة من "نيوتن" في الإفصاح عن جوهر القصد، "كرمان" ذهبت مباشرة إلى الهدف وأوضحت أن الهدف في النهاية هو التقسيم.
"نيوتن" لم يكن على هذا القدر من الشجاعة، وإن كان قد ألمح أنه حال نجاح فصل سيناء إداريًا، فما المانع من تكرار التجربة في محافظات أخرى، هو فقط أسقط من المقال على أن يخضع الأمر في النهاية لرغبة قاطني هذه المحافظات في الاستفتاء على الاستقلال.
إنه نفس المشروع ونفس الهدف، "شرق أوسط كبير جديد"، وما لم ينجحوا في تحقيقه من خلال "ثورات الربيع العبري"، فهم يعيدونه إلى الساحة عبر طرحه كأفكار خاضعة للنقاش العام، وهو أمر في غاية الخطورة على مستقبل دول مركزية كبرى كمصر والسعودية، ولا ينبغي السماح أو الاستهتار بما يطرحونه، أو إدخاله في سياق "التفكير خارج الصندوق".
أحذر مجددًا، "الفدرلة" فيها سم قاتل على الدول المركزية ذات البيروقراطية الإدارية المعقدة، وليس بالضرورة للنماذج الناجحة في الغرب والشرق أن تنجح في دولنا العربية الكبيرة، وأن ثقافة الشعوب العربية ووعيهم هما المستهدفان عبر طرح هذه الأفكار العبثية والسطحية، وأن هذه الأطروحات لا تتداول إلا في مراكز أبحاث أمريكية وإسرائيلية، ويتم تسويقها عبر هذا النوع من الطرح.
على الدول العربية الكبيرة التعامل مع هذا الأمر بكل قوة، وتفهم المنطق وراءه في هذا التوقيت، وإعداد البرامج التوعوية لتحصين المواطن العربي، من هذه الدعوات، التي تحمل في ظاهرها كل ما هو خير وفي باطنها كل ما هو شر، كذلك عليها الإسراع في مشروعات التنمية الشاملة لسرعة تحقيق أكبر عائد ممكن منها على المستوى الاقتصادي والاجتماعي والسكاني.
حفظ الله أمتنا العربية وشعوبها من كل شر يدبر بليل.
. .