فى مثل هذا الشهر قبل سبع سنوات تقريبا ( مايو 2013) جرت واقعة اختطاف جنودنا السبعة فى منطقة الوادى الأخصر على طريق "العريش - الشيخ زويد" . يومها اجتمع محمد مرسى (بحكم موقعه آنذاك) مع وزيرى الدفاع والداخلية، ومدير المخابرات العامة، وأكد حرصه على سلامة المخطوفين والخاطفين. وأظهر انحيازه عمليا (وليس بالخطاب الإعلامى المعلن) للتفاوض بدلا من العمل الأمنى أو العسكرى لتحرير الجنود السبعة من قبضة الإرهابيين.
لا أدرى لماذا قفز سيناريو مسلسل "الاختيار" على تلك الواقعة رغم أهميتها ودلالاتها الكبرى فى إطار تفسير طبيعة العلاقة المركبة (ذات الوجوه المتعددة وليس الوجه الواحد) بين الإخوان المسلمين وتنظيمات السلفية الجهادية.
صحيح أن سيناريو "الاختيار" أشار على لسان "توفيق محمد فريج" زعيم تنظيم "أنصار بيت المقدس" الإرهابى، آنذاك(الذى يجسده الفنان ضياء عبدالخالق ببراعة) ما يشير إلى أحد ملامح تلك العلاقة، وذلك أثناء لقائه لأول مرة مع الإرهابى هشام العشماوى، حيث قال للأخير: "قبل ذلك كان الإخوة يحدثوننا عن ضرورة منح الفرصة للحكم الإسلامى... الآن وقد أسقطوا الحكم الإسلامى، فليعد الجميع إذن إلى المربع الأول للجهاد".
لكن هذه الإشارة الخاطفة – على ذكائها – غير كافية للكشف عن طبيعة تلك العلاقة بين المعسكرين، والتى، بشكل عام، تتراوح بين التنافس (على الحديث باسم الإسلام) وبين التوظيف المتبادل، والتحالف، وأحيانا الاقتتال الدموى إذا تعلق الأمر بالصراع على السلطة!
خلال فترة وجود مرسى فى قصر الاتحادية حدث توافق ضمنى بين الطرفين على شكل العلاقة بينهما ليصبح "التوظيف المتبادل" هو الأساس فى تلك المرحلة.
من ناحية الإخوان، حرص قادتهم على بقاء وحضور فاعل لتلك التنظيمات فى المشهد، ولكن وفق معادلة تتفق وحسابات الإخوان وأهدافهم..
الإخوان يعلمون أن تلك التنظيمات هى فى النهاية بنادق موجهة نحو الشرطة والجيش العقبة الكؤود أمام إتمام "التمكين".. وبالتالى فلا بأس من استمرار الاستنزاف، ولكن وفق مستوى معين من العمليات الإرهابية لا يتسبب فى استفزاز للجيش يدفعه نحو مواجهة حاسمة مع تلك التنظيمات... ومن آن لآخر يجرى التخطيط لتنفيذ عملية كبيرة وموجعة للتأثير (وفق وجهة نظر الإخوان) على معنويات الجيش والمؤسسات الأمنية، ومحاولة النيل من صورتها وإحراجها أمام الرأى العام المصرى، بما يمنح فى النهاية الرئيس الإخوانى فرصة التدخل فى الشئون الداخلية لها من أجل اختراقها أو تطويعها وفقا لأجندة الإخوان.. الشاهد هنا مذبحة رفح فى 5 أغسطس 2012 وما تبعها.
هنا من يراجع أرشيف الأحداث منذ وصول محمد مرسى للسلطة، ويقف على طبيعة الأرقام ودلالتها سيصل إلى الاستناج السابق... خذ مثلا، الشهر الذى سبق الإطاحة بمرسى (أى يونيو 2013) لم يشهد سوى 7 عمليات فقط، فى حين شهد الشهر التالى له مباشرة (شهر الإطاحة به، يوليو 2013) الصعود الأكبر فى وتيرة العمليات، 112 هجوما إرهابيا.... وطيلة عام 2012 وقع فقط 45 هجوما فى شمال سيناء، فى حين شهد عام 2013 الذى تمت فيه الإطاحة بمرسى 236 عملية إرهابية.
هذه الوقائع تجسد عبارة توفيق فريج التى وردت فى مسلسل الاختيار والتى سبقت الإشارة إليها ونكررها ثانية: "قبل ذلك كان الإخوة يحدثوننا عن ضرورة منح الفرصة للحكم الإسلامى... الآن وقد أسقطوا الحكم الإسلامى، فليعد الجميع إذن إلى المربع الأول للجهاد".
المهم أنه، وفى مقابل قبول تنظيمات السلفية الجهادية الإبقاء على وتيرة عملياتهم بما ينسجم وحسابات الإخوان، حصلوا على الكثير من المكاسب: أولها: استمرار حماس فى السماح لهم بالتدريبات العسكرية داخل غزة، وإمدادهم ببعض السلاح المطلوب. وثانيها: حرص تلك التنظيمات (مع أول تجربة لحكم الإسلام السياسى فى مصر) على عدم قطع "شعرة معاوية" مع المكون السلفى: سواء المكون الفكرى فى داخل صفوف الإخوان أنفسهم. أو المكون الحركى الذى ضم كيانات ورموز سلفية أصبحت أكثر قربا من الإخوان عن ذى قبل، مثل "الهيئة الشرعية للإصلاح" قريبة الصلة بخيرت الشاطر، وكان أحد رموزها الشيخ محمد عبدالمقصود الهارب الآن إلى تركيا، وكذلك عماد الدين عبدالغفور (استقال عن رئاسة حزب النور فى ديسمبر 2012، وأسس حزب الوطن فى يناير 2013) الذى سبق له انخراطه فى "الجهاد الأفغانى" والذى عينه محمد مرسى مساعدا له لشئون "التواصل المجتمعى"، بل وأرسله للتفاوض فى واقعة الجنود السبعة، لكنه تنصل من ذلك بعد الضجة التى أثارها تحركه هذا الذى يفتئت فيه على صلاحيات الأجهزة الأمنية. وثالثها: أنه وفى ظل رئيس إخوانى فى قصر الاتحادية، وتدخل سافر من قبل جماعته فى طريقة عمل وزارة الداخلية وأجهزة المعلومات لديها (آنذاك) لم يكن من الصعب على "توفيق فريج" زعيم "أنصار بيت المقدس" أن يأتى بنفسه إلى القاهرة ويستقر بها (لبعض الوقت) ليشرف بنفسه على تجنيد عناصر من خلفيات سياسية واجتماعية مختلفة؛ وبالفعل نجح ومعاونوه فى حشد مجموعة من الشخصيات والخلايا وجمعها تحت مظلة واحدة، من أنحاء متفرقة من مصر مثل؛ المطرية، الإسماعيلية، بني سويف، الدقهلية (خاصة مدينة المنصورة)، كفر الشيخ، الشرقية، السادس من أكتوبر، الفيوم، قنا والجيزة. هذه الخلايا ضمت عناصر متخصصة في الإنتاج الإعلامي، والهندسة (تصنيع المتفجرات وضبطها، ضبط الصواريخ...) الهندسة الكيميائية (إنتاج مركبات متقدمة لتصنيع متفجرات أشد فتكا).
نعم فى ظل رئيس إخوانى رفض أحد مساعديه (خالد القزاز) اعتبار الشباب المصرى الذى يسافر إلى سوريا (للانخراط بين صفوف التنظيمات الإرهابية هناك) أنهم يمكن أن يشكلوا مصدر تهديد محتمل لمصر فى المستقبل، بل أكد عكس ذلك ... وفى ظل رئيس إخوانى حشد أنصاره فى الصالة المغطاة باستاد القاهرى ليعلن "الجهاد".
فى ظل كل ذلك وأكثر لم تجد "أنصار بيت المقدس" صعوبة فى تأسيس خلايا لها فى داخل الوادى والدلتا! هذه الخلايا جرى توظيفها فى كل عمليات التفجيرات الكبرى التى شهدتها القاهرة الكبرى، ومناطق متفرقة من الوادى والدلتا، عقب مرحلة الإطاحة مرسى التى انتقلت فيها العلاقة بين الإخوان والتنظيمات السلفية الجهادية من مربع "التوظيف المتبادل" إلى مربع "التحالف"... وهذا يحتاج إلى الإتيان على تفصيلات كثيرة للغاية، لا يتسع لها المجال هنا.