Close ad
22-4-2020 | 16:04

كنا صغارا فى عام 1962 عندما - على سبيل المزاح - قيل إن الرئيس جمال عبدالناصر الزعيم الثورى المصرى الذى يؤيد كل الثورات قد أرسل برقية تأييد إلى الثورة التى جرت على السفينة بونتى. كانت «هوليود قد انتجت فيلما جديدا عن التمرد الذى جرى على السفينة البريطانية فى 4 أبريل 1789 بعد أن غادرت هايتى فى جزر الهند الغربية فى طريقها إلى جزر الهند الشرقية. القصة حقيقية ومسجلة فى تاريخ التمرد البحري، وكانت هذه هى المرة الثانية لتصوير ما حدث قبل قرون بعد إنتاج جرى عام 1935؛ ولكن هذه المرة كان الصراع بين عملاقين فى تاريخ السينما الأمريكية، وفى الظن العالمية أيضا، مارلون براندو الذى كان قائدا للتمرد، وتريفور هوارد الذى كان قائدا للسفينة. والحقيقة أن دراما القصة لم تكن فقط عن التمرد على قائد السفينة، وإنما ما جرى ما بين البحارة وسكان الجزر التى نزلوا إليها وبات لهم فيها أسر وتاريخ. وفى هذا المقال فإنه لا القصة، ولا تاريخها، ولا الفيلم، ولا حتى مارلون براندو هو موضوعنا، وإنما كيف أن الموضوع حضر فجأة إلى الساحة السياسية الأمريكية حينما أعلن حكام ولايات أمريكية تحالفت فى شرق وغرب البلاد بأنهم بسبيلهم وضع برامج لعودة الحياة الطبيعية مرة أخري؛ فإذا بالرئيس ترامب يعتبر ذلك فى واحدة من تغريداته أنها تمثل التمرد الذى جرى على السفينة بونتى فى عرض البحر. وأعقب ذلك فى مؤتمر صحفى أن الرئيس وحده هو الذى يملك السلطة الشاملة فى تقرير هذا الأمر، وهو القضية التى عارضها الصحفيين على أساس أن الدستور الأمريكى يعبر عن دولة فيدرالية تعطى الولايات سلطات إدارة أزمات كبيرة من الأعاصير إلى أحداث الحادى عشر من سبتمبر، وبالتأكيد كوفيد-19. المسألة بعد ذلك باتت أمرا من أمور السياسة الداخلية الأمريكية، وكان العجب أن الديمقراطيين الذين كانوا دوما من أنصار الحكومة الفيدرالية (المركزية فى هذا الإطار) تبادلوا الأدوار مع الجمهوريين الذين أكدوا دوما الطبيعة الفيدرالية للدولة، وكانت شكواهم دائما من توغل الحكومة الفيدرالية فيما لا شأن لها به فى الولايات الخمسين.

ولكن ذلك يمثل مجرد فصل من فصول القصة الأمريكية الراهنة التى أخذت بأصول الصراع السياسى إلى قلب الدستور فى وقت بات فيه الرئيس يلعب دور الزعيم القوى أكثر منه رئيسا للدولة، والذى يعتبر الإعلام «عدوا للوطن»، والديمقراطيون حفنة من محترفى النصب على الجماهير بشعارات زائفة. هذه الحالة واحدة من جوانب ما بات يسمى فى الولايات المتحدة المعتاد الجديد أو The New Normal وهو تعبير بات ذائعا فى العالم الآن باحثا عن الحال فيما بعد انتهاء أزمة الكورونا. التصور هنا أن الأصل فى حياة الدول والأوطان هى وجود حالة عادية يعتاد فيها الناس أنماطا من السلوك فى العمل وتربية الأسرة والمنافسة فى الانتخابات وربما الوقوع فى الذنب أو الخطيئة؛ ومن ثم فإنه بعد الأزمات الكبرى كمثل تلك الجارية الآن فإنه بعدها سوف تحدث بعض التعديلات هنا أو هناك ولكن الدنيا كلها دولا وأوطانا سوف تصل إلى نمط معتاد ومريح. هذا النمط من التفكير يقابله نمط آخر هو أن ما يواجهه العالم الآن فيه الكثير من عناصر الانقطاع أو Disruption والتى لا تقود بالضرورة للانتقال مما هو معتاد إلى معتاد آخر. الاقتصادى المصرى العالمى محمد العريان اتهم فى حديث تلفزيونى طريقة التفكير للبحث عن المعتاد الجديد بعد الأزمة الراهنة بأنها طفولية وغير ناضجة لأنها من ناحية سوف تطول أكثر مما يتوقع الجميع؛ ومن ناحية أخرى سوف تترك الكثير من آثار الجراح التى يصعب الاعتياد عليها.

الثابت هو أن الرئيس الأمريكى لم يكن من قبيل القيادات المعتادة فى التاريخ الأمريكى ولا حتى القيادات الجمهورية السابقة فهو ليس نيكسون ولا ريجان ولا بوش الأب ولا الابن، هو حالة جديدة يرى بعض الأمريكيين أن مهارته وقدراته تجعله فوق النقد؛ فهو المنقذ الذى أرسلته السماء لكى ينقذ الأمريكيين من استغلال الحلفاء وعدوان المهاجرين وسفاهة الليبراليين. ولكن البعض الآخر يتعامل معه كما لو كان آتيا من مسرح العبث أو روايات الديستوبيا المروعة التى تقوض المؤسسات الأمريكية ومعها أمريكا وتقاليدها، وربما الكرة الأرضية أيضا. هل يكون هناك معتاد جديد أم لا، حياة عادية أم حياة غير عادية وربما غير معقولة، سوف يتقرر فى نوفمبر المقبل عندما يحين وقت الانتخابات الرئاسية الأمريكية. جو بايدن المرشح الديموقراطى المتوقع استقر له الأمر كممثل لجماعة البحث عن المعتاد الجديد الذى ليس مختلفا كثيرا عن المعتاد السابق، أو هكذا يرجو من المطالبة بالعودة إلى اتفاقية باريس لحماية الكرة الأرضية، والمصالحة مع الحلفاء، والقيادة العالمية مرة أخرى تحت رايات العولمة والليبرالية والديمقراطية، مع تطعيم كل ذلك ببعض المطالب اليسارية الخاصة بالرعاية الصحية خاصة بعد السياسة الموصومة بالفشل فى أثناء الأزمة، وتقديم تسهيلات مالية أكثر للطلاب أثناء الدراسة الجامعية. ترامب بالطبع يريد أربع سنوات أخرى لا يعد فيها أكثر من عودة الانطلاق الاقتصادى مرة أخري، وربما حضور إفلاس النيويورك تايمز والواشنطن بوست والسى إن إن، وإقامة الحائط مع المكسيك الذى بدأ فيه دون أن يقدر على اكتماله، واللعب والتلاعب مع الصين وروسيا بحيث يشهد تورطهم المكلف فى الشئون العالمية، بينما يفرك يده فرحا فى الولايات المتحدة المحمية بمحيطين، الأطلنطى والباسفيكى.

هل سنعلم فى نوفمبر المقبل عما إذا كان العالم سوف يصل إلى معتاد آخر، أو أن ثورة السفينة بونتي، الولايات المتحدة فى هذه الحالة، سوف تنفجر ويتبعثر بحارتها فى جزر منعزلة، لا يوجد فى أى منها ما كان معتادا من قبل؟ هى مسألة معقدة لا شك؛ ولكن الحياة فى دنيانا ليست بسيطة!

نقلا عن صحيفة الأهرام

كلمات البحث
الأكثر قراءة