كنت أقرأ أخيراً باستمتاع رواية صوت الغراب للكاتب المصرى المبدع عادل عصمت، التى صدرت عام 2017. ورغم أن الرواية مكتوبة ومنشورة منذ سنوات، فقد قرأت فيها معنيً قد يختلف عن مقصدها الأصلى ويليق بالسياق الذى نعيشه فى هذا العام الموبوء 2020. ما أوحت لى به الرواية، أو بالأدق، عنوانها، فى هذا السياق الجديد الذى نحياه، هو المقاومة الجمالية للسواد والقتامة، جمال الحياة وجمال الفن والإبداع، وكيف أن الجمال هو نوع من الصمود فى وجه القبح، فى الأزمات التى يمر بها الإنسان الفرد، أو الأوطان أو الإنسانية كلها. ربما لا يكون هذا موضوع الرواية، لكنها بتداعى المعانى أحالتنى إلى نص آخر هذا بالـتأكيد موضوعه. فقد تذكرت إحدى سوناتات صلاح جاهين: تلك التى يكلم فيها الشاعر الغراب، ويعلن فيها التحدي، باسم الحياة والجمال، لكل ما هو قبيح ومشئوم وانهزامي، وساخر من المعانى الجميلة، كأنه غراب ينعق على الأطلال.
من البداية يُلقى جاهين فى وجه السواد العدميّ قفاز الحياة الأخضر. لكنّ موقفه ليس هو ذلك التفاؤل الساذج، الذى لا يرى حوله إلا وروداً ورياحين، فهو يدرك تماماً كل ما فى الحياة من أسباب تجعل الغراب يظن أن الموت والخراب سوف يُكتب لهما النصر النهائيّ. لكنّ هذا الوعى بقوة حجة العدم والعدميين لا يجعل الشاعر يفقد الثقة فى أن الحياة والجمال، وكل المعانى التى بها الحياة تستحق أن تعاش، هى التى ستتم لها الغلبة، رغم كل ما فى دنيانا من قبح وموت. إن الشاعر يدرك قوة خصمه وما يمثله، لكنه مؤمن أن ما يمثله هو وينافح عنه هو الأقوى والأبقي:
بتهز راسك ليه وتبتسم/ يا غراب، فى ضل جنينتك التراب؟/ من ضحكتك وِسْطك ح ينقسم/ اطلقها عالية وقول: خراب، خراب.. هذا السرور الوضيع بما يبدو وقتياً انتصاراً للقبح والموت يثير غضب المحب للحياة والجمال، فيلعن الغراب وما يمثله الغراب فى المقطع الثاني:
برضك بتضحك تحت سُرِّتك/ وعينيك بتتغامز لبعضها/ ملعون أبو الفكرة اللى سَرِّتك/ ملعون سماها الشوم وأرضها.. وفى المقطع الثالث يستدرج الشاعر الغراب إلى ما يتوقعه الأخير اعترافاً بقوة منطقه الأسود، فإذا بالشاعر المغنى يقلب الطاولة على الغراب ويصدمه بالمعنى الحقيقيّ للحياة:
الدنيا هى الدنيا، مش كده؟/ الدنيا يا غراب هِيّ هِيّ، نعم/ كَرْمة سكارى العشق والفِدا/ وسرير ولادة الحلم والنغم.. ولا يبقى فى النهاية إلا إعلان التحدي: اضحك وانا ح اضحك، وشوف يا بِين/ مين ضِحْكِته توصل لحد فين!.
ثم وقعت فى يدى مسرحية هى تمصير لعمل مسرحى كتبه بالإسبانية، فى زمن الحرب الأهلية التى شهدتها إسبانيا فى ثلاثينيات القرن الماضي، الكاتب أليخاندرو كاسونا بعنوان: ممنوع الانتحار فى الربيع، وقام بتعريب العمل الكاتب والمخرج المسرحى المصرى رأفت الدويرى تحت عنوان بين نارين، وتم نشر النص العربى بالعامية المصرية عام 2006 فى سلسلة نصوص مسرحية عن الهيئة العامة لقصور الثقافة. وهذا العمل مظاهرة أخرى ضد الموت واحتفال بالحياة، وتدور أحداثه فى فصل الربيع بين مجموعة من النفوس المهيضة التى هزمتها الحياة، فاختارت الموت، لكنها حين أتيح لها مكان ومشروع للانتحار الجماعى جفلت وفزعت وارتدّت لحب الحياة المتأصل فيها غريزياً، وتحوّل نادى التخرج اللذيذ من الحياة إلى احتفال جماعى بالربيع وشم النسيم.
وها نحن على أعتاب شم النسيم، وفى قمة الربيع نواجه ذلك العدو الخسيس المتخفى الذى يستخدم خلايانا لإنتاج ملايين النسخ من ذاته التوسعية المدمرة، لكننا سنقوم ذات يوم من هذه العثرة، وستعود أعيادنا، ولمة العائلة، وبهجة الأولاد والأحفاد.