"كورونا" أزمة أفراد قبل أن تكون أزمة جماعات ودول، ومن هنا حتى نتجاوزها لابد أن ننشغل بها كلنا، هي أزمة الإنسان مع الحياة من حوله، مع ذاته ومع القوى المحيطة به، صغرت أم كبرت مرئية أم غيبية، هي أزمة الوجود الحي المتفاعل، المتضائل، المتعاظم، المنفرد والمتكامل، هي أزمة التساوي والتضاد بين كل المكونات، ما علمناها وما لم نعلمها، أمس واليوم وغدا.. "الكورونا" أزمة أن نكون أولا نكون.
هى ليست "فلسفة" وإنما هى الحقيقة التى جعلنا نشعر بها ذلك الكائن المتناهي في الصغر، الذي عجزت حتى الآن عن التصدى له كل قوى الشر والعدوان، التي جندت وجيشت جهود العلماء فيها للدمار والهدم وقهر الأمم المستضعفة، فكانت أول من عانى من بطش ذلك الفيروس المجهول.
لم يعد أمامنا سوى اللجوء إلى خالق الكون رب الملكوت ليخرجنا من هذه الأزمة، فهو سبحانه وتعالى أعلم بخلقه، وهو صاحب السلطان، الذي أوكله إلينا علنا نعمل صالحاً فجنينا على أنفسنا، فلا كاشف لتلك "الغمة" إلا لله وسلطان العلم.
ووسط تداعيات هذه الأزمة، هناك الكثير من الأمور التى يجب أن نتصارح فيها وعنها: ألم تثبت " كورونا" أن أطباء مصرهم خط دفاعها الأول، وهم الجيش الذي يتصدى حالياً ببسالة لمواجهة هذا الفيروس؟
لابد من إعادة الاعتبار إلى دراسة الطب وحقوق الأطباء الضائعة من بدل عدوى محترم، وأجريليق بأصحاب هذه الرسالة السامية من أطباء وكل العاملين في المجال الطبى، وإلا فنحن ندفعهم دفعاً إلى الهجرة (وسيكون لهم كل العذر) ونكون خسرنا مرتين: مرة حين أنفقنا عليهم الكثير ليتعلموا في كلياتهم، والثانية حين نحتاج اليهم فلا نجدهم، ويكون سوء معاملتنا لهم ماديا ومعنويا هي السبب وراء "تطفيشهم".. وقتها لن نلوم إلا أنفسنا. لأن المتوقع أن يفتح الغرب أبوابه وخاصة أمريكا وإيطاليا وفرنسا وإسبانيا لهجرة أطبائنا.
يجب أن تكون ميزانية "الصحة" هي الموازنة رقم واحد، وليس غيرها، وما دمنا نتحدث عن الطب فهو جزء لا يتجزء من واقع التعليم المتردي في مصر بكل مراحله، لابد أن نعيد النظر فى هذه المنظومة لنعلى من قيمة البحث العلمي والاختراع، نحتاج إلى علماء وباحثين، وليس إلى كتبة حكوميين ومنظرين فقط، فـ"كورونا" هو تحد للعلم والعلماء، هم أصحاب السلطان، وليس غيرهم.
لابد من إعادة النظر فى الدور الاجتماعى لرجال الأعمال والفنانين أصحاب الدخول العالية، فأين هم وأين دورهم؟
أننا في وقت حرج، وكل شخص لا بد أن يتحمل المسئولية، فرجال الأعمال لا بد أن يعطوا مثلما أخذوا، فقد استفادوا كثيرا من دعم الدولة، كتخفيض أسعار الفائدة بالبنوك، وتأجيل سداد أقساط القروض 6 أشهر، وخفض أسعار الطاقة للمصانع، ودعم المصدرين، وها هو دورهم الآن لرد الجميل لأبناء وطنهم، مثلما فعل الأطباء الذين لا يتقاضون سوى ملاليم ويقفون فى مواجهة الموت في الخطوط الأمامية.
إن دفع رواتب العاملين كاملة، هو أقل ما يقدمه رجل الأعمال لموظفيهم وعمالهم في إطار المسئولية المجتمعية الملقاة على عاتقهم، وسدادا لجزء من حق وفضل الوطن عليهم، فيجب أن يبادر أصحاب الأعمال بدعم العمال وأسرهم اجتماعيا واقتصاديا مثلما يفعل رجال أعمال ومستثمرى أوروبا وأمريكا. خاصة وأن القطاع الخاص يضم نحو 23 مليونا ونصف المليون عامل، يمثلون نحو 75% من عصب الاقتصاد المصري، ومن هنا ليس وطني من يطالب بتسريح تلك العمالة في ذلك الوقت الصعب، فالمستثمر المحلى أو الأجنبي استفاد من الدولة طوال الفترة الماضية، وحان الوقت الآن لأن يقف بجانبها لحمايتها، «فكلنا في خندق واحد».
ونقطة في غاية الأهمية، لابد أن ندرك خطورتها وهى وضع اقتصادنا المصري حالياً وفيما بعد، فربما تكون التأثيرات الاقتصادية لفيروس كورونا علي مصر أشد بكثير من تأثيره المرضي، خاصة بعد أن خرجت حوالي 33 مليار دولار من مصر خلال أيام قليلة، لأن معظم هذا المبلغ كان سندات دولارية للأجانب فلما بدأت الأزمة هرعوا للحصول علي أموالهم، إضافة إلى 30 مليار جنيه سحبها المصريون خلال أيام، مما يوضح حجم الكارثة الاقتصادية لكورونا علي الاقتصاد المصري، مع العلم أن معظم الدولارات الموجودة في البنك المركزي كانت سندات دولارية وودائع، فإذا أضفت لذلك حجم الدين الخارجي الذي وصل لأكثر من 100 مليار دولار وحجم الدين الداخلي الذي تجاوز أربعة تريليونات، مع وقف تام للسياحة لمدة غيرمعلومة، وكذلك تباطؤ تحويلات المصريين وحركة المرور في قناة السويس، تبينا حجم الأزمة. وفى هذا الإطار أيضاً لابد أن نسأل: إذا امتد غلق الحدود الجوية والبحرية لمدة طويلة من أين سوف نحضر أدوية حيوية لا تصنع في مصر مثل الإنسولين الآدمي والانوكسين والأدوية البيولوجية وغيرها؟ ومن أين ستسدد مصر أقساط فوائد الديون وأقساط الديون نفسها؟ والمشكلة لا تعتمد علي رجوع الحركة الاقتصادية لمصر ولكنها مرتبطة بأزمة العالم كله.
لابد أن نستيقظ ونفيق من غفلتنا: "كورونا" يضرب وجودنا وسلامنا الأهلي بقوة، يجب أن نحاسب أنفسنا أفرادًا وجماعات حكاماً ومحكومين، وعلى كل منا أن يجيب علي هذه الأسئلة: ماذا ستفعل مع ربك؟ ماذا ستفعل مع الناس الذين ظلمتهم؟ ما الأقوال والمواقف الشجاعة التي لم تجهر بها جبناً وتقية هل ستقولها الآن؟
هل ستقدم جزءاً من مالك صدقة للفقراء والمحتاجين؟ هل ستطلب بالتليفون من تقاطع ومن تشاحن تطلب العفو والسماح؟ بدلاً من أن نبكي وننتظر الموت لابد أن يحاول كل منا أن يجد معنى جديداً لحياته، وعن نفسى سأذهب إلي ربي أطلب منه السماح وسأقف مصلياً متبتلاً أرجو عفوه ورحمته، سأذهب إلي كتبي أحاول أن أصلح من شأني العلمي والمهني، سأحاول أن أبث تعاليم جديدة في أبنائي وأحفادى شغلتني الدنيا عن بثها فيهم، سأطلب كل من تخيلت أني ظلمته حتي أبدأ معه صفحة جديدة، سأحاول بكل عزم وقوة القضاء علي كل ما في من أنانية ودونية وأثرة.
لابد أن نغير أنفسنا قبل أن يداهمنا "كورونا".. الوقت ينفذ و"كورونا" يطاردنا ولا عزاء لنا إن تقاعسنا.
وأخيراً.. ينبغي ألا نشغل أنفسنا بالخوف من "كورونا" ولكن بأن نفجر في أنفسنا طاقات إنسانية تجعلنا نستطيع أن نذهب لربنا مطمئنين راضين مرضيين.
[email protected]