Close ad
1-4-2020 | 17:09

عكس عنوان المقال فإن الشائع في علوم الاقتصاد والتنمية هو التنمية المستدامة ويقصد بها أن الدول تتقدم وتراكم رأس المال وتحقق الحداثة وتبلغ المستويات العليا في العلم والمعرفة والصحة إلى الدرجة التي لا يكون بعدها تراجع. من الممكن للدولة أن تمر بمتاعب اقتصادية فتقل معدلات النمو أو ترتفع البطالة أو يحدث التضخم أو يزيد العجز في الموازنة أو يحدث انكماش اقتصادي مؤقت؛ ولكن الاقتصاد والسياسة أيضًا يكونان من القوة والتمكن بحيث تجرى عمليات لتصحيح الأمور وعودتها إلى مسارها الصحيح.

هي حالة يصبح الاقتصاد بعدها أشبه بجهاز التكييف المتقدم الذي يجري ضبطه على درجة حرارة مناسبة فإذا ما ارتفعت درجة الحرارة فإنه يقدم هواء باردًا يعود بعدها إلى الدرجة المطلوبة في نوع من التصحيح الذاتي لأمور الطقس.

استدامة التنمية هي العملية التي يتم فيها تأسيس التنمية المستدامة من خلال عملية شاملة للنمو المستقر لفترة زمنية معقولة تختلف من دولة إلى أخرى، ومن زمن إلى آخر بحيث تتم مضاعفة الناتج المحلي الإجمالي إلى الدرجة التي لا انكسار بعدها، وإنما عمليات تصحيح ذاتية تجرى بالقوى الراسخة فيها كلما حل خلل.

تاريخ الدولة المصرية الحديثة كله منذ عصر محمد على حتى الآن يحمل قصة الصعود على جبل التنمية ثم السقوط من حالق لكي نبدأ القصة كلها من جديد. أسباب ذلك من الصعب حصرها، كان منها الاستعمار الإنجليزي، وكان منها الكفاح من أجل الاستقلال، وكان منها غياب القيادة الرشيدة، وكان منها الفتح الإستراتيجي على الإقليم والعالم لأكثر مما كان في الدولة من قدرات. وفى عقود دارت الدولة حول الصراع العربي الإسرائيلي، وكان عليها بعد التخلص من الاحتلال الإنجليزي أن تناضل مرة أخرى للتخلص من الاحتلال الإسرائيلي مرتين، واحدة منهما كانت لخمسة أشهر والأخرى ست سنوات. وأحيانا كانت المسألة كلها اختيارات تنموية تعيسة كان وراءها شعارات للعدالة وإدارة الفقر بدلا من إدارة الثروة وتوليدها وتخريج الفقراء من الفقر بدلا من بقائهم وإعانتهم على البقاء داخله.

وآخر القصص بدأ منذ خمس سنوات عندما استقرت أمور الدولة بعد التجربة التعيسة للربيع العربي وحكم الإخوان، وبدأت مرحلة جديدة من النمو المضطرد الذي استمر في التزايد رغم تحدى الإرهاب. كانت الحكمة الحاكمة أن مصر سوف تمضى في طريق التنمية كما لو أنه لا يوجد إرهاب؛ وسوف تحارب الإرهاب كما لو أنها لا تقوم بالتنمية. كانت المعادلة صعبة ومعقدة، لكنها انتهت مع بداية العقد الجديد والتنمية جارية، والإرهاب مقيد وعاجز عن الإضرار بالتطور التاريخي المصري.

أصبحت مصر حقيقة في التعبيرات الدولية من الدول البازغة؛ وهو لقب حصلت عليه في مطلع القرن ولكن الثورة والفورة في مطلع العقد الثاني عادت بالبلاد إلى الوراء وكان عليها أن تأخذ الصخرة كما فعل سيزيف مرة أخرى إلى قمة الجبل. لم يكن هناك بد من اتخاذ قرارات صعبة جرى اتخاذها وبدأت رحلة الصعود وبعد سنوات خمس بدا المستقبل مشرقا لعقد جديد. الآن فإن مصر تمر باختبار آخر، ورغم صعوبته فإنه لا يعنى بالضرورة السقوط إلى أسفل الجبل فهناك من الوسائل والرشادة ما يكفي لمواصلة الصعود خلال السنوات العشر المقبلة. الضربة الجديدة تمثلت في فيروس الكورونا أو كوفيد 19 الذي أصاب العالم وأصابنا أيضًا ليس فقط بالمرض وإنما فوقه تراجع حاد في الموارد الضرورية لاستدامة التنمية والتي كانت إلى حد كبير من الروافع التي أخذت بنا إلى الثلث الأول من الطريق إلى القمة. مواجهة ذلك لا يكون إلا بمواصلة المنهج الذي اتبعناه منذ البداية وهو الاستعداد لاتخاذ قرارات صعبة؛ وهذه المرة ليس لها علاقة بالإصلاح المالي الذي اتبعناه والذي ينبغي المحافظة عليه فلا يكون هناك سوق سوداء للدولار مرة أخري، وإنما سوف نضيف له إصلاحا هيكليا يدفع بالقطاع الخاص إلى ساحة التراكم الرأسمالي للدولة. وفى العادة فإنه في أوقات الأزمات تكون النظرة إلى هذا القطاع ذات طبيعة اجتماعية قوامها حجم التبرعات التي يقدمها، والتي سوف يلام عليها لقلتها في كل الأحوال.
وعادة ما يكون هذا القطاع أيضا مجموعة من الأشخاص أو العائلات التي يمكن التركيز على غناها والمكاسب التي حققتها في أزمنة سابقة دون تحقق أو تأريخ لما جرى.

الطريق إلى القمة يستدعي نظرة أخرى لصناع مصر، وتجارها، وبناة مدنها، والعارفين بإنتاجها والمشغلين لنحو 70% من عمالها، والذين وظيفتهم الأساسية كما هو الحال مع المؤسسات العامة والقوات المسلحة أن يقوموا بالبناء وتحقيق تراكم رأسمالي يحقق التنمية المستدامة. لا يوجد دولة في العالم حققت الوصول إلى هذه الدرجة من التنمية إلا بقطاع خاص قوي يقوم على المبادرة الفردية والمشاركة الفعلية في بناء الدولة ليس كأفراد أو عائلات وإنما كمؤسسات واتحادات مثل اتحاد الصناعات المصرية، والغرف التجارية، وجمعيات رجال الأعمال ولدى هذه جميعا مشروعات متكاملة ومفصلة للتقدم الصناعي والزراعي والخدمي المصري.

قبل أيام، وفى زمن الكورونا قامت الحكومة بالفعل بتقديم العديد من الحوافز لتشجيع القطاع الخاص ومن بينها تخفيض سعر الوحدة الحرارية للغاز من خمسة ونصف دولار إلى أربعة ونصف دولار. الأمر هكذا يبدو كما لو كانت الحكومة تيسر الأمر للقطاع الخاص، ولكن الحقيقة هي أن سعر التصدير للوحدة الحرارية، 1.7 دولار؛ أي أن التسهيل هو في حقيقته أكثر من ضعف السعر العالمي. ولكن المسألة ليست الطاقة فقط، وإنما هي أن تكون التسهيلات في مناخ الاستثمار وإجراءاته، ولا يحتاج الأمر أكثر من الاطلاع على تقرير ممارسة الأعمال الذي يصدره برنامج الأمم المتحدة للتنمية حتى نعرف نوعية القرارات الصعبة التي علينا اتخاذها. وفى ذات الوقت فإن أخذ أجندة الإصلاحات العاجلة لدفع النمو الصناعي وتشجيع الاستثمار الأجنبي الصادرة عن اتحاد الصناعات المصرية بالجدية التي يستحقها ربما يقيم حوارا مثمرا يجعلنا نحارب الفيروس في مجال الصحة بيد؛ بينما اليد الأخرى تأخذ التقدم المصري إلى قمة الجبل الموعود.