أجريت مع الأستاذ نجيب محفوظ حوارًا في مقهى "علي بابا" للنشر في مجلة "المصور"، وكان ذلك في اليوم التالي لاغتيال الدكتور رفعت المحجوب في أكتوبر سنة 1990.
كنت قد ذهبت للقائه في ساعة مبكرة من صباح الجمعة في مقهى "علي بابا" في ميدان التحرير، ذلك المقهى الذي شهد بعد ذلك ولثمانية عشر شهرًا جلسات مطولة ما بين نجيب محفوظ ورجاء النقاش، تم خلالها تسجيل نحو 50 ساعة، والتي أسفرت عن مذكرات قيمة صدرت عن مركز الأهرام للترجمة والنشر بعنوان "نجيب محفوظ.. صفحات من مذكراته وأضواء جديدة على أدبه وحياته"..
لم أكن قد أخذت موعدًا مسبقًا لإجراء الحوار الذي قصدت منه الحديث حول الشاعر المكسيكي "أوكتافيو باث" الذي حاز على جائزة نوبل قبل يوم واحد فقط..
رحب بي أمام باب المقهى وهو يحصل على بعض صحف الصباح من بائع الجرائد أمام المقهى، وأبلغني بأسف شديد أنه مرتبط بموعد آخر، وطلب مني الحضور في الغد في نفس الموعد.
ولم أعرف كيف سيمر اليوم الذي بدأته مبكرًا على غير العادة، فذهبت إلى مكتب جريدة "الحياة" في شارع أمريكا اللاتينية في جاردن سيتي في اللحظة التي هدرت فيها طلقات الرصاص باتجاه سيارة رئيس مجلس الشعب الدكتور رفعت المحجوب والركب المرافق أمام فندق سميراميس على النيل.
ونبهني إلى صوت الرصاص الصديق الصحفي والروائي والمترجم والناقد والمؤرخ السينمائي محمود قاسم، كان يمر بمكتب "الحياة" لتسليمي موضوعًا صحفيًا عن "أوكتافيو باث" بالذات والذي طلبته منه، وكنت مشرفًا على الصفحة الثقافية في الجريدة، ونزلت لأرى المحجوب ومن معه من نافذة سيارتهم وقد ثبتتهم الرصاصات، بينما يميل رأس المحجوب بشعره الأبيض على صدره، وسائقه كان متدليًا بنصف جسده العلوي خارج السيارة، وقائد موتوسيكل المقدمة يبكي على الرصيف المحازي لفندق شبرد.
وفي صباح السبت كنت أجلس مع جهاز التسجيل أمام نجيب محفوظ في مقهى "علي بابا" لنتحدث عن كل هذا الإرهاب الدموي، وكأنها النبوءة فقد تحدثنا حول تهديده هو شخصيًا بسبب "أولاد حارتنا" وقال إن هذا "شيء مؤسف، لأنك مهدد بسبب كتاب، و99% من الذين يتكلمون عنه لم يقرؤوه ومن قرأه لم يفهمه، لأن حصيلة قراءة الرواية تدعو للمناقشة والفكر لا للتهديد والقتل"..
ولم يكن مقهى "علي بابا" في ميدان التحرير في ذلك الوقت سوى حلقة جديدة من المقاهي التي ارتادها الكاتب الكبير.. ونعرف أن نجيب محفوظ جلس في المقاهي أكثر مما جلس في أماكن أخرى، وارتبطت شهرة مقاه عدة لارتياده لها، من عرابي وقشتمر بالعباسية إلى الفيشاوي في الحسين، وكازينو صفية حلمي في ميدان الأوبرا إلى مقهى ريش في وسط البلد، لكنه لم يكتب أبدًا في أي مقهى، بينما أدباء كثر كتبوا في المقاهي، مثل محمود البدوي في عماد الدين، وعباس الأسواني في ريش وإبراهيم فهمي في زهرة البستان.
وكان البعض يكتب في الفنادق مثل عبدالرحمن فهمي في شبرد، ووحيد حامد في الميريدان، ويوسف جوهر في الكوزموبوليتان، وعبدالرحمن الشرقاوي في فترة حياته الأخيرة كان يبدأ أعماله ويكملها في فندق السلام، على الأقل آخر عملين له، ومحمد المخزنجي الذي يكتب في فندق سفير بالدقي، أما خيري شلبي فقد كان يكتب في المقابر خصوصًا أعماله الأخيرة.
وكان ارتياد المقاهي للقاء الأصدقاء جزءًا أساسيًا في حياة نجيب محفوظ منذ شبابه المبكر، ولم يكن يرى بأسا من تلك اللقاءات، أو يسمح لها بتعطيله عن الكتابة.
وكانت مجموعة الأصدقاء في القرن الماضي لدى القاهريين تعني "شلة"، وربما ما زال البعض يطلق عليها الاسم نفسه، وكان لنجيب منها الكثير، فقد بدأ بشلة العباسية التي تتخذ من مقهى عرابي مستقرًا، وأعضاؤها مجموعة من الشبان من أبناء الحي، أما الشلة على أساس ثقافي فكانت "الحرافيش" والتي بدأ أعضاؤها يلتقون في الشوارع والمقاهي ثم استقروا في بيت الكاتب الساخر محمد عفيفي في الهرم، وقال محفوظ لرجاء النقاش إن الصداقة لم تؤثر في وقت من الأوقات على التزاماته أو مسئولياته الأدبية، وأنه بشيء من التنظيم والانضباط يمكن أن ينسق الأديب بين التزاماته الأدبية والتزاماته تجاه أصدقائه.
هذا الانضباط كان جليا لكل من هم حول نجيب محفوظ.
وكما ذكرت فإن محمد عفيفي كتب عن "رجل الساعة" كما كتب أستاذ الأدب الشعبي الدكتور عبدالحميد يونس في سلسلة مقالاته بمجلة المصور "قال الراوي" عن "المقاهي الأدبية" في أكتوبر 1982 عن أن هذه المقاهي كانت ساحة للقاءات تتسم بحرية المناقشة، وتجمع بين الكبار والشباب، وكتب:
لما انتقلت الجلسة من قهوة "بترو" بشاطئ السراي بالإسكندرية بعد أن تحول بنيانها إلى عمارة شاهقة، اتفقت الجماعة على أن تستمر ندواتها الحية في "كازينو الشانزليزيه" ومن أهم أعضاء الندوة الأستاذان توفيق الحكيم ونجيب محفوظ، وكذلك إبراهيم فرج، وسجل يونس آخر يوم في الندوة في ذلك الصيف، وكانت للاحتفال بعيد ميلاد الحكيم.. وكتب:
"أما نجيب محفوظ فكان يستمع أكثر مما يتكلم ويتأمل فيما يقال، ويجيب عن الأسئلة التي توجه إليه في تدفق المختزن للذكريات والتجارب.. وهذا الروائي الكبير يذكرني كلما لقيته بأصالته القاهرية التي تومض كالنجم وراء الأزياء والأقنعة الدخيلة، وأستعيد في لحظات قدومه وخروجه صورة الفيلسوف الشهير "كنت" الذي كان الناس يضبطون الساعة على انطلاقه ومراحل سيره في الطريق، نفس ملاحظة الكاتب الساخر محمد عفيفي، وهي نفسها ملاحظة كل من اقترب من الأديب الكبير، وبالتالي هي ليست مصادفة إنما قرار ومبدأ.