في إطار تعنتها الذي تسبب في دوران مفاوضات سد النهضة في دائرة مفرغة طوال خمس سنوات لم تكتف الحكومة الإثيوبية بمقاطعة جولة مفاوضات واشنطن المقررة سلفًا في 27 و28 فبراير؛ بل زادت من حدة تعنتها وانتقدت مصر بغير حق لتوقيع وفدها بالأحرف الأولى على مسودة الاتفاق النهائي التي بلورتها وزارة الخزانة الأمريكية بالتعاون مع البنك الدولي.
كما انتقدت بيان الخزانة الأمريكية الذي طالبها بالتوقيع على مسودة الاتفاق في أقرب وقت ممكن، وبمجرد انتهائها من المشاورات الداخلية، وأكد على أنه لا ينبغي إجراء التجربة النهائية وملء خزان السد "بدون اتفاق"، لكي يتم إنهاء الخلاف المستمر منذ سنوات بينها وبين مصر والسودان حوله.
الغضب الإثيوبي لا يرجع فقط إلى مجرد توقيع مصر بالأحرف الأولى على مسودة الاتفاق النهائي، ورفضها الطلب الإثيوبي تأجيل جولة واشنطن التي كان من المقرر أن يتم خلالها وضع اللمسات الأخيرة على بنود الاتفاق والتوقيع عليه، إنما يرجع الغضب إلى أن أديس أبابا تعلم جيدًا أن توقيع مصر قطع الطريق عليها لإدخال أي تعديلات على الاتفاق، أو تمديد المباحثات أكثر من ذلك إلَّا بموافقتها.
فإن كان من حق إثيوبيا أن تطلب التأجيل أو ترفض التوقيع قبل تضمين ملاحظاتها على مسودة الاتفاق، فليس من حقها أن تلوم مصر على التوقيع؛ لأن هذا حقها، وإن كانت اتفاقية إعلان المبادئ لا تمانع من الاستمرار في بناء السد إلَّا أنها وضعت شروطًا عديدة لذلك؛ منها استكمال الدراسات للتأكد من سلامة جسم السد، ومعرفة التأثيرات السلبية المحتملة على البيئة والمجتمع، فضلًا عن عدم البدء في ملء بحيرته أو تشغيله إلا بالتوافق والتنسيق بين الدول الثلاث.
أما غضب إثيوبيا من الإدارة الأمريكية فيرجع إلى مطالبتها لها بتوقيع الاتفاق في أسرع وقت لإنهاء الخلاف؛ حيث أكد وزير الخزانة الأمريكي ستيفن منوتشين أنه يتطلع إلى اختتام إثيوبيا لمشاوراتها الداخلية؛ لإفساح المجال للتوقيع على الاتفاق "في أقرب وقت ممكن"، مشددًا - في تحذير ضمني للحكومة الإثيوبية - على أنه لا ينبغي إجراء التجربة النهائية وملء خزان السد "بدون اتفاق".
ودعمًا لموقف مصر أوضح الوزير الأمريكي أن الاتفاق الذي تم التوصل إليه خلال الأشهر الأربعة الماضية بمشاركة الدول الثلاث والبنك الدولي "يتناول كل القضايا بطريقة متوازنة ومنصفة"، وقال إن مصر مستعدة لإبرام الاتفاق ووقعت عليه بالأحرف الأولى لكن إثيوبيا تواصل مشاوراتها الداخلية، مضيفًا أن دولتي المصب، السودان ومصر، تشعران بقلق بشأن عدم اكتمال العمل الخاص بالتشغيل الآمن للسد، وأكد أن الولايات المتحدة تؤكد مجددًا التزامها باستمرار التواصل مع مصر وإثيوبيا والسودان بشأن السد حتى توقيع الاتفاق النهائي.
لذلك لم تتجاوز وزارتا الخارجية والموارد المائية المصريتان الحقيقة عندما أعربتا عن بالغ الاستياء والرفض لبيان وزارتي الخارجية والمياه الإثيوبيتين بشأن جولة المفاوضات التي تغيبت عنها إثيوبيا عمدًا لإعاقة مسار المفاوضات.
فقد أعلنت الوزارتان المصريتان أنه من المستغرب أن يتحدث البيان الإثيوبي عن الحاجة لمزيد من الوقت لتناول هذا الأمر الحيوي بعد ما يزيد على خمس سنوات من المفاوضات المكثفة التي تناولت كافة أبعاد وتفاصيل هذه القضية.
وأكدتا أن البيان اشتمل على العديد من المغالطات وتشويه الحقائق والتنصل الواضح من التزامات إثيوبيا بموجب قواعد القانون الدولي وبالأخص أحكام اتفاق إعلان المبادئ لعام ٢٠١٥، وأكدتا رفضهما التام لاعتزامها المضي في ملء خزان السد بالتوازي مع الأعمال الإنشائية وليس ارتباطًا بالتوصل إلى اتفاق يراعي مصالح دول المصب، ويضع القواعد الحاكمة لعمليتي ملء السد وتشغيله بما لا يحدث أضرارًا جسيمة.
وقالت الوزارتان المصريتان إن هذا ينطوي على مخالفة صريحة للقانون والأعراف الدولية ولاتفاق إعلان المبادئ الذي نص في المادة الخامسة على ضرورة الاتفاق على قواعد ملء وتشغيل السد قبل البدء في الملء، وهو الاتفاق الذي وقعته إثيوبيا ويفرض عليها الالتزام بإجراءات محددة لتأكيد عدم الإضرار بدول المصب.
كما أكدتا أن الاتفاق العادل والمتوازن الذي بلورته الولايات المتحدة والبنك الدولي قد جاء بمشاركة كاملة من قبل إثيوبيا وتضمن مواد وأحكامًا أبدت أديس أبابا موافقتها عليه، ويتسق تمامًا مع أحكام القانون الدولي، ويمثل حلًا وسطًا يتسم بالعدل والتوازن تم التوصل إليه من واقع جولات المفاوضات المكثفة بين مصر والسودان وإثيوبيا على مدار الأشهر الأربعة الماضية، وأكدتا أن ملكية إثيوبيا لسد النهضة لا تجيز لها مخالفة قواعد القانون الدولي والالتزامات الإثيوبية باتفاق إعلان المبادئ أو الافتئات على حقوق ومصالح الدول التي تشاطرها نهر النيل.
وقبل ذلك بأيام أعلنت مصر في تحذير واضح الدلالة أن كافة أجهزتها ستستمر في متابعة سد النهضة وإيلائه الاهتمام الذي يستحقه في إطار اضطلاعها بمسئولياتها الوطنية في الدفاع عن مصالح الشعب المصري ومقدراته ومستقبله بكافة الوسائل المتاحة.
وذكرت وزارة الخارجية أن الدور البناء الذي اضطلعت به الولايات المتحدة والبنك الدولي ورعايتهما لجولات المفاوضات المكثفة على مدار الأشهر الأربعة الماضية أسهم في بلورة الصيغة النهائية للاتفاق والتي تشمل قواعد محددة لملء وتشغيل سد النهضة وإجراءات لمجابهة حالات الجفاف والجفاف الممتد والسنوات الشحيحة وآلية للتنسيق وآلية ملزمة لفض النزاعات وتناول أمان سد النهضة والانتهاء من الدراسات البيئية.
تُرى، إذا كان بإمكانها مواصلة تعنتها مع مصر ومخالفتها لقواعد القانون الدولي المنظمة لاستخدام مياه الأنهار العابرة للدول، فهل ستستطيع إثيوبيا الوقوف في وجه إدارة الرئيس ترامب التي أمدتها بمساعدات مادية قيمتها مليار دولار في عام 2018 وحده؟ لا أتوقع أنها ستستمر في تحدي رغبة الرئيس الأمريكي في إنجاز اتفاق بذلت واشنطن لأجله جهودًا كبيرة.