غاية الإبداع، سواء أكان عملًا أدبيًا أو فنيًا هو خلق المجتمع الصالح، الذي أساسه المواطن والإنسان النافع والمفيد للناس والوطن، تحقيقًا لغاية الخالق سبحانه وتعالى، "وَمَا خَلَقْتُ الْجِنَّ وَالْإِنسَ إِلَّا لِيَعْبُدُونِ" (الذاريات56) وأي عمل إبداعي لابد أن يكون ملتزمًا بالقيم والمبادئ الأصيلة التي نحلم جميعًا أن تسود عالمنا، والتي من خلالها يسود العدل وينتصر الحق، ويعيش الناس في أمن وأمان، ورغد العيش، أي عمل فني أو روائي أو قصصي لا يهدف إلى ذلك، ويحقق هذه الغاية لا فائدة منه، ولا يستحق ثمن ما خُط به من حبر، ولا يعدو سوى أن يكون مضيعة للوقت.
ومن الزملاء الصحفيين، الذين عرفتهم وعملت معهم وتعلمت منهم: الكاتب الصحفي والفنان التشكيلي والشاعر والروائي "خليل الحداد" عرفته منذ أكثر من 37 عامًا، عندما كنت معارًا إلى مجلة "زهرة الخليج" وكان هو يعمل كاتبًا ورسامًا في مجلة "ماجد" الإماراتية، وهو أحد مؤسسيها، مع الكاتب الصحفي الكبير "أحمد عمر"، فهو إنسان صادق وموضوعي، صاحب رسالة وهدف، لا يقول إلا ما يؤمن به، لا يكتب حرفًا إلا ويبتغي منه مرضاة الله سبحانه وتعالى، وصالح الناس وبناء المجتمع القيمي، الفاضل، كان هذا هدفه وهو يعمل في الصحافة العراقية، وفى جريدة "الاتحاد الإماراتية" ومن خلال أكثر من ثلاثمائة وخمسين قصة قصيرة، وفي قصتين من تأليفه قررتهما وزارة التربية والتعليم في الإمارات، وتفسير خمسة أجزاء من القرآن الكريم، أجازها الأزهر، وعدد من كتب السيرة وحياة الصحابة وقصص من التاريخ الإسلامي، وغيرها من الأعمال الإبداعية التربوية الهادفة.
وتأتي قمة إبداعه القيمي والتربوي الهادف في رواية "إسكندراني من بوسطن" التي أقل ما يُقال عنها إنها محاولة لصناعة مجتمع فاضل وصياغة حياة أقرب إلى المثالية أو"يوتوبيا" تسير كل الأمور فيها طبقًا لشريعة الله سبحانه وتعالى، ويؤدي كل إنسان واجبه، ويأخذ حقه حسب علمه وعمله وجهده، الرواية حافلة بالصراع الذي يكشف خبايا نفوس البشر، ويعلمنا كيف نواجه أحداثًا طرأت في حياتنا، ويضع أيدينا على مفاتيح النجاح، بطل هذه الرواية شاب نشأ في حي شعبي بالإسكندرية، بدأت طموحاته بحلم رآه في نومه، قرر أن يحقق هذا الحلم، فواجه أخطارًا يشيب من هَوْلهَا الوُلْدان، كان وحيدًا حينما قرر أن يخوض معركة التحدي، في مواجهة مجرمين محترفين، فكر وخطط ولم يتراجع، وظهر له أنصار شرفاء، خاضوا معه صراعًا شرسًا، تم اختطافه مرتين، إحداهما شاركت فيها عصابات المافيا، وفي كل مرة وقعت أحداث مثيرة، تم استدراجه لأخطر الأماكن في الإسكندرية، وجد نفسه وسط تبادل عنيف لإطلاق النار، ظن أنه لن ينجو من الموت.
حقق نجاحًا علميًا في الإسكندرية، ولكنه كان حريصًا على الوصول إلى العالمية، سافر إلى بوسطن فلاحقته صراعات رهيبة، ولكنه كان مصرًا على تحقيق ذاته، كان بعلمه ومظهره وذكائه فتى أحلام أجمل الفتيات، سعت إلى حبه "سارة" الإسكندرانية، و"لورين" الأمريكانية.
الرواية منذ سطورها الأولى، وحتى نهايتها تسير وفقًا لهدف، ونسق قيمي تربوي، رسم المؤلف شخوصها بريشة فنان متمكن من أدواته الفنية، فجاءت الشخصيات متسقة مع الأحداث، دالة عليها ومعبرة عنها، حتى أسماء أبطال الرواية تناغمت مع مضمون وشكل كل شخصية، "بدر، سارة، درية، زمردة، أشرف، سيد الدكش، وميمي سكسوكة" وغيرها، وهي برغم بساطة ورقة الأسلوب وعذوبته، أتت ثرية حافلة بكل ما هو قيم ومفيد من معلومات في شتى نواحي الحياة، وكل معلومة لا تشعر أبدًا أنها مقحمة على النص الدرامي أو الحدث الروائي، وإنما هي جزء أصيل منه، ضفرها المؤلف ببراعة وتمَكُن، فهو خبير بالأماكن، يرسم خريطة تفصيلية بمقياس رسم روائي لأماكن الأحداث، ليس في الإسكندرية فقط، وإنما حتى في بلاد الغربة "بوسطن".
وبرغم "القيمية" التي تؤطر لنوع قد يكون جديدًا من الرواية، أو يمثل على الأقل عودة إلى الأعمال الإبداعية الراقية، إلا أن صانعها لم يهمل أي وظيفة من وظائف الإبداع الراقي، فرغم جديته وأسلوبه الرصين، لم تخل الرواية من مناطق الترفيه والتسلية والفكاهة الخفيفة المحببة، وبفنية عالية ضفر"خليل الحداد" الجدية مع الطرافة، والميلودراما مع الرومانسية من خلال حبكة روائية محكمة، جعلتنا نستشعر أجواء الطيف الدرامي كلها متناغمة، كقوس قزح، تشارك في عزف سيمفونية حكائية، يتنقل من خلالها القارئ بين جداول وسهول، وجبال ومرتفعات العمل الروائي، فأنت تستمتع بالحب النظيف النبيل، من خلال تلك المشاعر المتدفقة بين سارة وبدر؛ فتصل إلى قمة الرومانسية، التي تستمر حتى بعد وفاة سارة، من خلال قصة الحب الرائعة بين الإسكندراني "بدر" والأمريكية "لورين" التي انشرح صدرها للإسلام، وسارت "سمية" التي أكمل معها بدر دينه وأحبها بعقله وقلبه، وتعيش أجواء الواقعية العلمية والاختيار الصحيح والجهد الدءوب الذي ينقلك إلى جو المعامل، وتزهو بالتفوق وأهميته، وضرورته لبناء مجتمع يقدر قيمة "زويل" ويرنو إلى "نوبل".
وبسرد روائي رائع تعيش جو الإثارة والمتعة والتشويق، من خلال مغامرات "ميمي سكسوكة" ومؤامرته في الإسكندرية والمطاردات البوليسية في منطقة الذراع البحري، وأيضًا من خلال مؤامرة المافيا في بوسطن، كل ذلك صاغه الكاتب بميزان من ذهب، وتسلسل منطقي للأحداث، يرتفع في شكل هرمي، يرتقي القارئ من طبقة إلى أخرى في سهولة ويسر، وتشويق، وصولا إلى نقطة "التنوير" وقمة الهرم الإبداعي الممتع، وكلما صعدت، زاد تشوقك، وتفتحت شهيتك للقراءة أكثر، ولا تجد نفسك قد ارتويت، فتعاود التطويف، رغبة في المزيد من متعة المعرفة والنهل من سيل المعلومات المتدفق بعذوبة، وتأمُل التحليل الموضوعي لنماذج مختلفة من النفوس البشرية والمواقف الطريفة، التي تدفعك لقراءة الرواية أكثر من مرة، وفى كل مرة تكتشف جديدًا فيه مزيج من المتعة والإثارة.
[email protected]