لا حديث الأمس واليوم وغدًا، يسيطر على عقول الكثير منا، إلا الحديث عن "عيد الحب"، "والفلانتين" والترتيب لإحياء ذكراه، لينعم فيه كل محب بحبيبه - حالمًا وواهمًا - وكأن هذا الحب الماسخ، المشوه، الفلانتيني التافه، هو رمز الحب وأيقونته، ليس فحسب عند من صدروه لنا، بل لدى الكثير منا للأسف الشديد.
ولمثل هؤلاء المخدوعين الجاهلين، أقول لهم: إذا أردتم أن تعلموا الحب الحقيقي وتتعلموه، فانظروا في دينكم الإسلامي، لتروا حقيقته، ونماذجه التي ينبغي علينا التأسي به في حياة تعاش، ومنهج يتبع، بدلاً من هذا "الفلانتين" المزعوم.
يدلنا ربنا سبحانه ورسوله - صلي الله عليه وسلم - عن الأساس الرئيس للحب، في قوله تعالى: "قل إن كنتم تحبون اللَّه فاتبعوني يحببكم اللَّه ويغفر لكم ذنوبكم واللَّه غفور رحيم"؛ بل صرح الرب العلي في كتابه الكريم بمن يحبهم، وأوجب حبه لهم في نماذج ثمانية هم المتقون، والمحسنون، والتوابون، والصابرون، والمقسطون، والمتوكلون، والمُطَّهِّرون والمُتطهِّرون، والذين يقاتلون في سبيله صفًا كأنهم بنيان مرصوص.
ولعل سيرة نبينا الحبيب وصحابته خير شاهد ودليل على هذا الحب الحقيقي المقرون بالاتباع والتأسي، يرويها لنا عروة بن مسعود، لما قدم مفاوضًا للنبي ـ صلى الله عليه وسلم ـ من طرف قريش وحلفائها في صلح الحديبية، واصفًا ما رآه من حب الصحابة وتعظيمهم للنبي قائلًا: "والله لقد وفدت على الملوك ووفدت على قيصر وكسرى والنجاشي، والله ما رأيت ملكًا قط يعظمه أصحابه كما يعظم أصحاب محمد محمدًا، إذا أمرهم ابتدروا أمره، وإذا توضأ كادوا يقتتلون على وضوئه، وإذا تكلم خفضوا أصواتهم عنده، وما يحدون إليه النظر تعظيمًا له".
ومن بعض الصور الكثيرة في حب الصحابة للنبي ما حدث في غزوة أحد، حين حاصر المشركون الرسول فسارع المسلمون إليه يفدونه بأرواحهم بسياج بأجسادهم وسلاحهم، فهذا أبوطلحة يسور نفسه بين يدي النبي، رافعًا صدره ليقيه من سهام العدو، قائلاً له: "نحري دون نحرك يا رسول الله"، وهذا أبودجانة يحمي ظهر النبي والسهام تقع عليه ولا يتحرك، حتى صار كالقنفد من كثرة السهام في ظهره، وهذا مالك بن سنان يمتص الدم من وجنته حتى أنقاه، وهذه امرأة من بني دينار، استشهد زوجها وأخوها وأبوها مع النبي، فلما نعوهم لها قالت: "ما فعل رسول الله؟، قالوا: خيرًا يا أم فلان، هو بحمد الله كما تحبين، قالت: أرونيه حتى أنظر إليه، فأشير لها إليه، حتى إذا رأته قالت: كل مصيبة بعدك جلل ـ أي صغيرة ـ ".
وهذا ثوبان مولى رسول الله، شديد الحب له، يتغير لونه حزنًا على فراق حبيبه في الجنة فيطمئنه الله ورسوله بقرآن ينزل فيه يتلى إلى يوم القيامة: " وَمَن يُطِعِ اللَّهَ وَالرَّسُولَ فَأُولَٰئِكَ مَعَ الَّذِينَ أَنْعَمَ اللَّهُ عَلَيْهِم مِّنَ النَّبِيِّينَ وَالصِّدِّيقِينَ وَالشُّهَدَاءِ وَالصَّالِحِينَ ۚ وَحَسُنَ أُولَٰئِكَ رَفِيقًا ".
وهو ذاته الحب المتبادل الذي صرح به حبيبنا فخر الكون - صلي الله عليه وسلم - لأصحابه في مواقف عديدة، منها ما قاله لأبي موسي الأشعري بوابه، حين استأذن مرة للدخول على رسول الله أبو بكر وعمر بن الخطاب وعثمان بن عفان، تباعًا، فيقول: ائذن له، وبشره بالجنة، وحين أَخَذَ الرسول بِيَدِ مُعَاذٍ بن جبل، قائلا لهَ: يَا مُعَاذُ واللَّهِ إِنِّي لأُحِبُّكَ... الحديث".
وحين أخبر الحبيب يوم خيبر عليًا بن أبي طالب أن الله ورسوله يحبه، قائلاً: "لأعطين هذه الراية غدًا رجلاً يفتح الله على يديه يحب الله ورسوله ويحبه الله ورسوله"، وحين ضم نبينا عبدالله بن عباس وقال: اللهم علمه الكتاب، وفي حديث آخر: اللهم فقهه في الدين وعلمه التأويل، وحين دعا النبي لسعد بن أبي وقاص محبًا له: ارمِ سعد فداكَ أبي وأمي، وحين كان يفتخر به عندما يراه مقبلاً: "هذا خالي، فليرني امرؤ خاله"، وحين دعا له النبي قائلاً: "اللهم استجب لسعد إذا دعاك"، وحين أخبر النبي الأنصار قائلاً عنهم: "آية الإيمان حب الأنصار، وآية النفاق بغض الأنصار لو سلك الناس واديًا، وسلكت الأنصار شعبًا، لأخذت شعب الأنصار"، وحين قال عن عثمان بن عفان بعدما جهز جيش تبوك، ما ضر عثمان ما فعل بعد اليوم، وحين أخبر الرسول أبا موسي الأشعري يقول له: "لو رأيتني وأنا أستمع لقراءتك البارحة لقد أوتيت مزمارًا من مزامير آل داود".
كما كان حبيبنا الله - صلي الله عليه وسلم - محبًا لأمته عامة حين أخبر قائلاً: "لكل نبي دعوة مستجابة، فتعجل كل نبي دعوته، وإني اختبأت دعوتي شفاعة لأمتي يوم القيامة، فهي نائلة إن شاء الله من مات من أمتي لا يشرك بالله شيئًا"، ونحره الأضاحي بدلًا عن فقراء أمته قائلاً: "اللهم هذا عن أمتي جميعًا، ممن شهد لك بالتوحيد، وشهد لي بالبلاغِ"، والتيسير على أمته في مواطن العبادة والتكليف الأخرى.
وهكذا تتعدد نماذج الحب المختلفة التي يعلمنا إياها نبينا، ومنها حب الوطن والزوجة والأبناء والدين، وغيره، فهل نتعلم الحب الحقيقي منه - صلى الله عليه وآله وصحبه وسلم - ؟.
[email protected]