أخيرًا وبعد طول انتظار أعلنت وزارة الخزانة الأمريكية أنه تم التوصل لاتفاق مبدئي حول سد النهضة بين مصر وإثيوبيا والسودان، بعد مباحثات مكثفة بين وزراء الخارجية والموارد المائية بالدول الثلاث ووفودهم مع وزير الخزانة ورئيس البنك الدولي في واشنطن على مدى ثلاثة أيام؛ مما يؤكد مدى أهمية استضافة الولايات المتحدة للمفاوضات ومشاركتها والبنك الدولي فيها؛ حتى ولو كانت بصفة مراقب.
الاتفاق تم من حيث المبدأ بعد أن كان اليأس بدأ يتسرب إلى البعض من التوصل إلى حل بسبب مواقف إثيوبيا المتعنتة طوال المفاوضات، وتركيزها فقط على تشغيل السد في أسرع وقت ممكن، دون الأخذ في الاعتبار الضرر الذي سيصيب مصر إذا لم تكن هناك قواعد محددة متفق عليها لملء بحيرته وتشغيله بما لا يؤدي إلى اقتطاع كميات كبيرة من المياه لا تستطيع أن تتحمله.
الوزراء أكدوا خلال الاجتماع التزامهم المشترك بالتوصل إلى اتفاق شامل ومستدام ومتبادل المنفعة بشأن تعبئة وتشغيل سد النهضة، وأنه سيتم تنفيذ عملية ملء بحيرته على مراحل، وبطريقة مرنة وتعاونية؛ تأخذ في الاعتبار الظروف الهيدرولوجية للنيل الأزرق، والأثر المحتمل للملء على الخزانات في مجرى النهر، وعلى أن التعبئة ستتم خلال موسم الأمطار من يوليو إلى أغسطس وستستمر في سبتمبر وفقًا لشروط معينة.
ونصَّ الاتفاق أيضًا على أن مرحلة الملء الأولى للبحيرة يجب أن تصل لمستوى 595 مترًا فوق مستوى سطح البحر، مع اتخاذ تدابير مناسبة لتخفيف العبء عن مصر والسودان في حالة الجفاف الشديد خلال هذه المرحلة.
أما فيما يتعلق بالمراحل اللاحقة من الملء فينص الاتفاق على أنه سيتم تنفيذها وفقًا لآلية يتم الاتفاق عليها تُحدد بناءً على الظروف الهيدرولوجية للنيل الأزرق بشكل يحقق أهداف الملء وتوليد الكهرباء لإثيوبيا ويوفر لمصر والسودان التدابير المناسبة لتخفيف العبء خلال سنوات الجفاف والجفاف الممتد.
كما اتفق الوزراء على آلية تنسيق فعالة لتسوية النزاعات وعلى مسئولية مشتركة بين الدول الثلاث في إدارة الجفاف والجفاف الممتد، وعلى الاجتماع مرة أخرى في واشنطن يومي 28 و29 يناير؛ لوضع اللمسات الأخيرة على اتفاق شامل بشأن الملء والتشغيل، على أن تكون هناك مناقشات فنية وقانونية في الفترة التي تسبق الاجتماع، وأكدوا أهمية التعاون عبر الحدود في تنمية النيل الأزرق لتحسين حياة شعوب دولهم، والتزامهم المشترك بإبرام اتفاق.
من إيجابيات الاتفاق المبدئي أنه ركز في مواضع عديدة على ضرورة معالجة الآثار السلبية لملء بحيرة السد وتشغيله على مصر والسودان خلال فترات الجفاف، وهو ما كانت ترفضه إثيوبيا من قبل، كما نصَّ على ضرورة أن تكون هناك مرونة وتعاون بين الدول الثلاث في عملية الملء والتشغيل، والأخذ في الاعتبار تأثير الملء على السدود المصرية والسودانية.
كما أنه قطع الطريق على محاولات إثيوبيا للمماطلة وفرض الأمر الواقع على مصر والاستمرار في مفاوضات لا نهائية وغير مثمرة؛ خاصةً لو كانت جنوب إفريقيا قد تولت الوساطة بناءً على دعوة إثيوبية.
أما عن سلبيات الاتفاق التي تحتاج إلى معالجة خلال الاجتماع المقبل بواشنطن فتتمثل في الحاجة إلى صياغة أكثر تحديدًا فيما يتعلق بالتدابير المناسبة الواجب اتخاذها لتخفيف أثر الجفاف والجفاف الممتد على مصر والسودان؛ لأن العبارات العامة سيكون تفسيرها محل خلاف عند التنفيذ، كما لم نعرف بعد الشروط المعينة التي ستحكم عملية الملء خلال شهر سبتمبر الذي يصبح فيه هطول الأمطار غير ثابت، ولا ما هي آلية التنسيق القوية التي اتفقوا عليها لتسوية النزاعات، كذلك لم يتم الاتفاق على الآلية التي من خلالها سيتم تنفيذ المراحل اللاحقة لملء بحيرة السد بعد انتهاء عملية الملء الأولى.
وأخيرًا، وبالرغم من وجاهة تأكيد وزراء الخارجية الثلاثة أهمية التعاون في تنمية النيل الأزرق الذي يُقام عليه السد وتأتى منه أغلبية مياه النيل إلى مصر والسودان لتحسين حياة شعوبهم، فإن إثيوبيا ستراه على الأرجح ماسًا بسيادتها ولن يرى النور.
وعندما يتم تذليل بقية العقبات وإبرام اتفاق دائم وشامل وذي منفعة متبادلة ومبني على التعاون، كما سبق الاتفاق عليه من قبل بين الدول الثلاث، سوف يغنينا عن تضييع المزيد من الوقت في جولات مفاوضات جديدة بمشاركة وسيط وفق اتفاقية إعلان المبادئ الموقعة عام 2015؛ سواء كان هذا الوسيط الولايات المتحدة أو البنك الدولي أم جنوب إفريقيا التي دعا رئيس وزراء إثيوبيا رئيسها للوساطة في النزاع باعتبارها الرئيس المقبل للاتحاد الإفريقي.
فجنوب إفريقيا - على العكس من أمريكا والبنك الدولي - ليست مؤهلة للوساطة في هذا النزاع المعقد؛ لأنها لا تمتلك القدرة على الإقناع بتغيير المواقف، وليس للبلدين مصالح اقتصادية ذات وزن معها يمكن أن تضغط بها عليهما؛ للتقريب بين وجهات النظر المتباينة فضلًا عن أن وساطتها فشلت في حل النزاع بين حكومة السودان وحركات التمرد طوال سنوات، وكذلك في وقف الصراع بين الرئيس الليبي الراحل معمر القذافي ومعارضيه عام 2011.
وتنظم قواعد البنك الدولي استغلال مياه الأنهار التي تتشاركها أكثر من دولة، وتحظر قيام أي بلد ببناء منشآت لإنتاج الكهرباء أو لأغراض الري على النهر أو فروعه أو روافده إلّا بعد موافقة بقية دول الحوض؛ خاصةً دول المصب مثل مصر والسودان، حتى لا يتسبب في انقطاع المياه أو نقصانها أو تأخير وصولها إليها.
كما يلزم القانون الدولي المنظم لاستغلال مياه الأنهار العابرة للحدود دولة المنبع التي تقيم سدًا جديدًا بألَّا يضر بالسدود والمنشآت المائية السابقة على إنشائه على النهر، وبأن تبقى تعمل بكامل طاقتها، والمقصود في حالتنا هذه السد العالي في مصر وسدود الرُّصيرص وسنَّار ومَروى في السودان.
ونأمل أن يكتمل الاتفاق وتلتزم إثيوبيا بقواعد القانون الدولي تلك حتى تتحقق مصالح الأطراف الثلاثة وليس مصلحة طرف واحد.