حديثنا اليوم عن إفريقيا؛ المنجم الزاخر الذي لا ينضب ـ ولن ينضب ـ من وجود المعادن النفيسة في أعماق تربتها السمراء من الماس والذهب والفضة والذهب الأسود؛ ولكن يظل على أرضها باعث نهضتها التحررية والفكرية أثمن المعادن في الوجود: الإنسان!
هذه هي الحقيقة الرائعة التي لمستها بمشاعري من خلال المبادرات التي تقوم بها جهات متعددة وتحالفات منظمات المجتمع لتأكيد الدور الحيوي المهم الذي تقوم به مصر في ترسيخ أسس المحبة والسلام؛ ونشر التنمية في ربوع القارة السمراء كافة؛ وحرص القيادة السياسية على سبل التعاون والتواصل للعبور بالقارة الإفريقية لمرحلة التنمية الشاملة والاستثمار؛ وإيمانًا أيضًا بأهمية الثقافة والفنون في تقوية وشائج العلاقات الإفريقية - المصرية .
ومن خلالها يتم تكريم بعض الرموز الأدبية والفنية من بين الذين يعيشون بالمهجر خارج أوطانهم لأسبابٍ خارجة عن إرادتهم في أوطانهم، ووجدوا في مصر الحضن الدافئ الذي يرعاهم إنسانيًا وحياتيًا؛ بل يرعى مواهبهم الفنية والأدبية.
وتعمل هذه الجهات منذ نشأتها على تفريخ القيادات الإفريقية؛ حيث تعهدت مصر الثورة على هذه القيادات بالتوجيه والدعم والصقل؛ حتى نضجت واستطاعت أن تتحمل مسئولية الكفاح السياسي أو القتالي في ربوع القارة، وكان دور الثورة المصرية رائدًا في دعم هذه الحركات التحررية، كما عملت على تحقيق التلاحم بين القوى الثورية المختلفة، وتوحيد صفوفها في وجه الاحتلال وصولاً للأهداف القومية والعربية في التحرر والاستقلال؛ وبث الشعور الوطني للحفاظ على الهويَّة الإفريقية المتفردة.
ومن الطبيعي أن تكون مصر هي الدولة الرائدة في محاربة الاستعمار ومساندة حركات التحرر الإفريقي؛ حتى قبل قيام المنظمة الإفريقية، وكانت الكونجو واحدة من الدول الإفريقية التي ساندتها مصر من أجل الحصول على استقلالها؛ ومناصرة المناضل "باتريس لومومبا" الذي قام بتكوين ورئاسة "حزب الحركة الوطنية الكونجولية" لقيادة الكفاح ضد الاستعمار البلجيكي؛ ونجاحه في تشكيل حكومة وطنية؛ أجبرت بلجيكا على إعلان استقلال بلاده من الاستعمار العسكري والثقافي؛ ولكن تكاتفت العناصر الإمبريالية، والخونة في الداخل ضده وتم اغتياله؛ وتدخلت مصر لدى منظمة الأمم المتحدة ومجلس الأمن لحماية الكونجو؛ الذي قرر تشكيل قوات حفظ السلام؛ وكانت القوات المصرية على رأسها.
لقد أثمرت نتائج الكفاح منذ العام 1960 عام التحرر الإفريقي برعاية الثورة المصرية، تقدمها جمال عبدالناصر؛ وظهرت إلى الوجود "منظمة الوحدة الإفريقية"؛ وبنضالها حصلت أكثر من سبعين دولة إفريقية على استقلالها من ربقة الاستعمار الإنجليزي والفرنسي، وبخاصة المساندة والدعم للثورة الجزائرية، وتأييد نضال الشعب التونسي والمغربي؛ ناهيك عن الدعم الفعال للشعب الليبي والسوداني حتى الحصول على استقلاله بإرادة شعبية، وامتدت حركات التحرر لتشمل الصومال وكينيا وأوغندا وتنزانيا.
الحديث عن إفريقيا .. حديثٌ ذو شجون؛ حيث إن مصر تمثل ناصيتها الشمالية المطلة على البحر الأبيض المتوسط ؛ وتُعد المدخل الرئيسي لكل قوافل التجارة العالمية عبر التاريخ، وشهدت على مر تاريخها العديد من الرجالات الذين ناضلوا من أجل الحرية وتحرير كل أقطارها من السيطرة الاستعمارية الممثلة في انجلترا وفرنسا وإيطاليا والبرتغال وبلجيكا، تلك الدول التي استولت على ثرواتها الزراعية والمعدنية والبشرية، وكان في طليعة كفاح المناضلين من أجل الحرية: الفنانون والأدباء والشعراء وأشهرهم الشاعر "ليوبولد سنجور" الذي أنشد شعره لتحفيز الهمم للتطلع إلى الاستقلال .. إذ يقول في ذات قصيدة :
"لا يشغلنا الصوت المبهم في الريح
وليحملنا الصمت المتناغم، ولنسمع دمنا الداكن
ولنصغِ إلى إفريقيا
نبضات الأرض المحجوبة بضباب قراها المختفية"!
وبرغم وصوله إلى سدة الحكم كأول رئيس لـ "السنغال"؛ إلا أنه بعد الاطمئنان على تحرير بلاده وترسيخ أعمدة الاستقلال؛ قام بالتخلي عن الرئاسة بمحض إرادته، وقال لحظة تسليم القيادة لشباب بلاده: "الآن .. لا أريد سوى مقعدٍ صغير وسنارة صيد؛ لأجلس على المحيط لصيد الأفكار والأسماك ".
ولعلنا لا ننسى الشاعر العملاق /محمد الفيتوري؛ وهو شاعر سوداني بارز، عشق إفريقيا وكتب لها دواوين الشعر "أغاني إفريقيا" و"عاشق إفريقيا"؛ وكانت أشعاره وملاحمه استنهاضًا للشعوب الإفريقية للتخلص من قيود وأغلال الاستعمار بكل أشكاله العسكرية والسياسية والثقافية، ويُعد من رواد الشعر الحر الحديث، ويلقب بشاعر إفريقيا والعروبة، وتم تدريس بعض أعماله ضمن مناهج آداب اللغة العربية في مصر في ستينيات وسبعينيات القرن الماضي، كما تغنى ببعض قصائده كبار المطربين في السودان، ومما قاله شعرًا في هذا الصدد:
"لا تحفروا لي قبرًا/سأرقد في كل شبر من الأرض/أرقد كالماء في جسد النيل
أرقد كالشمس فوق حقول بلادي/مثلي أنا ليس يسكن قبرًا"!، وصارخًا في وجه بني جلدته والعالم: "قلها لا تجبن .. لا تجبن قلها في وجه البشرية /أنا زنجي
وأبي زنجي الجلد/وأمي زنجية/أنا أسود/أسودٌ لكـني حر/أمتلك الحرية"!
إن ارتباط مصر بالقارة الإفريقية؛ هو ارتباط مصير في المقام الأول جسديًا وحضاريًا جسدته الجغرافيا والتاريخ والإرادة المشتركة في الحرية، ولابد من تعزيز الأواصر بالمصالح المتبادلة بين الشعوب الإفريقية؛ والسعي الدءوب لتحقيق الأمن والسلام والتقدم، وبخاصة فيما يتعلق بنهر النيل شريان الحياة وسط القارة وأهميته في استمرار وازدهار الحضارة المصرية منذ القدم، وضرورة تعزيز ما تشير إليه ديباجة دستور 2014: أن "مصر هبة النيل للمصريين، وهبة المصريين للإنسانية.
لقد أشرقت شمس إفريقيا .. وعلينا بكفاحنا ألا ندعها تعود إلى خدرها! ولن تعود فمصر خير راع تتحمل مسئوليتها دونما توانٍ، وتحافظ على ما تحققه من نجاحات وإنجازات فلا عودة إلى الخلف!