في مدرسة "الأهرام العريقة" أُرسيت قيم وقواعد صحفية أصيلة، كانت ولا تزال وراء تميز تلك الصحيفة وضع أسسها أساتذة نذروا أنفسهم لمهنة الصحافة، عشقوها، وأعطوها عمرهم، وبادلتهم هي عشقًا بعشق ومنحتهم الخلود في سماء مهنة البحث عن المتاعب.
ومن أساتذة الفنون الصحفية وصناع التميز في"الأهرام" ممدوح طه" أبوالخبر الصحفي الحديث، وأستاذ الخبر الصادق، الذي ميز صحيفته على مدى 18 عامًا قضاها رئيسًا لقسم الأخبار بالأهرام.
نعم لم يأت به الأستاذ "هيكل"، وإنما جاء ليجده في الجريدة بعد أن أحضره للعمل فيها "كامل الشناوي" عندما كان رئيسًا لتحرير الأهرام، ولكن لأنه كان عملاقًا في فن الخبر، الذي لا يزال حتى اليوم هو سر تفوق أي جريدة أو مؤسسة إعلامية، وثق "هيكل" في قدراته، وكان أحد أركان حربه، مع صلاح هلال وعبدالحميد سرايا، أو قل مثلث التفوق الذي سار بالأهرام إلى المقدمة.
ولخطورة دور هذا الرجل، نقول إن قسم الأخبار الذي كان يرأسه، انقسم بعد ذلك إلى أقسام متعددة، كان يديرها هو وحده، دون أن تتخلف يومًا، أو تسبقها جريدة أخرى في خبر، وكانت أعوامه مع الأخبار كلها انفرادات بعدد أيام السنة، وكان دائمًا وراء الخبر، سواء انفرد هو به، أم انفرد به جندي آخر من جنود الأخبار المتميزين، الذين عرف كيف يختارهم بدقة وعناية، وأحسن تدريبهم، وتوزيعهم على المصادر المختلفة، وكان كل منهم متوافقًا قلبًا وقالبًا مع الجهة التي اختاره لها، حتى صاروا علامات عليها، وتطبعوا بطابعها، فقد كنت تشعر في أيامه أن المحرر العسكري هو بالفعل جنرالًا في الجيش المصري، خبرة وحنكة ومعرفة، والمحرر الدبلوماسي، أصبح سفيرًا؛ لأنه أعطى كل اهتمامه وحياته لعمله، وتوثقت علاقاته بكل من يعمل بالسلك الدبلوماسي، حتى صار وكأنه واحدًا منهم، وقد عاصرت منذ بدايتي في الأهرام، الأستاذ حمدي فؤاد، الذي لم نكن نخاطبه، إلا بلقب سعادة السفير.
وكانت بداية معرفتي وسماعي باسم"ممدوح طه" من زميلي "عادل إبراهيم" مدير تحرير الأهرام، ورئيس القسم الاقتصادي سابقًا، عندما أخبرنا، وكان هو يتدرب خلال العطلات الصيفية بالأهرام، أن الأستاذ ممدوح طه رئيس قسم الأخبار بالأهرام طلب منه أن يحضر عشرة من الطلاب المتفوقين بقسم الصحافة ليضعهم تحت الاختبار، ليختار من بينهم من يصلح ليكون صحفيًا، وبالفعل جاء بعض الزملاء، ولكنني لم أكن منهم، وكان من بينهم الزملاء "محمد طعيمة"، و"عادل إبراهيم"، والمرحوم "عبدالعظيم درويش"، والمرحوم "حسين فتح الله" و"حسن عاشور"، وكلهم علامات مضيئة فى تاريخ الأهرام.
وكان من أقرب هؤلاء الزملاء إلى قلب واهتمام "ممدوح طه" الزميل "محمد طعيمة" الذي كان أول نائب لرئيس قسم الحوادث من جيلنا، وليس معنى ذلك أن الأستاذ "ممدوح طه" كان يؤثر صحفيًا دون آخر باهتمامه، ولكنه كان يعرف مكمن تفوق كل من يعمل معه، وقد رأي في "طعيمة" قدرة كبيرة على المتابعة، والذاكرة اللاقطة المسجلة، والصياغة الإخبارية الجيدة، والعمل الدؤب، فوضعه نصب عينيه.
رأيت في السنة الأولى من التحاقي بالأهرام أساتذة كبارًا كانوا حتى نهاية أعمارهم يعملون مندوبين إخباريين متميزين، منضبطين كالساعة، يعطون الأهرام، وينافسون الصحفيين الشباب، الذين كانوا في أعمار أبنائهم، في الحصول على الخبر، ويميزون الأهرام بالانفرادات، بفضل توجيهات ومتابعة "ممدوح طه"، ومنهم الأساتذة: سعيد فريد، وحسن سلومة، وحامد عبدالعزيز، ومحمود عبدالعزيز، وإبراهيم عمر، وحسن أبوالعينين... وغيرهم من الأساتذة.
رحم الله من توفي منهم، ومتع الباقين بالصحة، الذين كانوا يشكلون قوة قسم الأخبار الضاربة، كل في تخصصه، يعزفون مع أجيال الشباب في ذلك الوقت (عبدالرحمن عقل، ولبيب السباعي، وعبدالوهاب مطاوع، وفاروق جويدة، وأمين محمد أمين، ومحمد عبد التواب، وفاروق كمال، ومحمود معوض، وأحمد حسين وغيرهم) سيمفونية إخبارية متميزة، تحقق السبق تلو السبق.
كانوا كبارًا وشباب يجمعهم حب الأهرام، والسعي وراء الخبر ليل نهار، أي طوال 24 ساعة، يتنافسون فيما بينهم تنافسًا شريفًا من أجل أن يكون لجريدتهم السبق.
كان ممدوح طه ينتمي إلى جيل يؤمن أن الصحافة علم تسبقه الخبرة، وتسنده الموهبة؛ لذلك لم يدخر وسعًا في تبني واحتضان العديد من المواهب الصحفية الواعدة من خريجي قسم الصحافة، الذين كانوا يلقون منه كل تشجيع وترحيب وخبرة مهنية وإنسانية، تعلموا معه ومنه الاعتداد بلاحدود بالمهنة وكرامتها، منحهم الأستاذ كل خبرته، ولم يبخل عليهم بما تعلمه من قواعد وآداب المهنة عبر سنوات تفوقه الخبري، كان دائمًا كالوتر المشدود، يدفع بهم إلى معركة العمل الصحفي مسلحين بثقة عالية في النفس، ومزودين بنصائح وتعليمات، كان أهمها الصدق في الخبر، والتحذير من عقاب لا مثيل له في حالة أن ثبت أن الخبر كاذبًا، فقد كان يرفض أن ينشر خبرًا غير موثق، أو يشتم فيه رائحة الفبركة، أو الكذب، كان يلقي المندوب منهم، فيبادره على الفور بسؤال، كان كل منهم يتوقعه حين يلقاه "إيه الأخبار"، كانت قيمة المحرر وقامته تزداد طولا وعلوا عنده بقدر ما يحضره من أخبار تصنع تميزًا للأهرام.
كان كتلة من الحس الصحفي الأصيل المتجدد يتلقي الخبر ويراجعه، ويصححه، ويستكمله من مصادره، ثم يدفع به إلى المطبعة، صانعًا منه مانشيتًا أو خبرًا متميزًا، كان في تعامله مع جنوده، أبًا رحيمًا وقائدًا حازمًا: كان ينبه ويذكر، ويجازي ويعاقب، ويكافئ ويهنئ، ويساند الجميع بلا استثناء، وكان حريصًا على كرامة كل صحفي من صحفيي الأهرام، يبعث في نفوسهم الثقة والاعتداد بالمهنة الرفيعة التي ينتمون إليها، وبالمؤسسة العريقة التي يحملون اسمها، وكان يرى أن كرامة الصحفي من كرامة الجريدة، ويرفض رفضًا قاطعًا تعالي المصدر على الصحفي، حتى لو كان وزيرًا، اشتكى له "محمد عويس" الصحفي الراحل بالأهرام أن محافظ القاهرة آنذاك أساء إليه، فاستصدر قرارًا من "هيكل" بمنع نشر أخبار المحافظ لمدة شهر بالأهرام، حتى يدرك هو وغيره من المسئولين الكبار أن كبرياء الصحفي وكرامته المهنية، لا تقل عن كرامة كبار رجال الدولة.
[email protected]