نهر النيل (5)
مع نهاية فترة الخمسينيات وبداية حقبة الستينيات من القرن الماضى، وبالتزامن مع انطلاق حركات التحرر واستقلال الدول الأفريقية، ظهرت في القارة السمراء فكرة إنشاء مؤسسات إقليمية تضم مجموعات من الدول حتى لو كان بينها اختلافات لغوية أو ثقافية، قناعة بأن ذلك هو المدخل الطبيعي للوصول إلى التعاون الشامل المنشود ولم الشمل بين بلدان القارة.
بالفعل لاقت الفكرة قبولاً كبيرًا، وفي عام 1958 قررت غانا ـ الناطقة بالإنجليزية والتي كانت قد حصلت على استقلالها منذ عام ـ وغينيا ـ الناطقة بالفرنسية- إقامة اتحاد بينهما بهدف تنسيق سياساتهما في الشئون الخارجية والاقتصادية، وكمدخل نحو إقامة اتحاد عام يشمل دول غرب إفريقيا، كخطوة أولى في طريق التوحيد الشامل المرجو للقارة بكاملها .
وارتفعت الأصوات للدفاع عن الفكرة، فهذا ليوبولد سيدار سنغور أول رئيس للسنغال (أديب عالمي وشاعر مشهور أطلق عليه اسم: الشاعر الرئيس، وواحد من أهم المفكرين الأفارقة في القرن العشرين) يقول "دعونا أخيرًا نقول إن الاختلافات الجنسية واللغوية والثقافية لن تزول … ويجب علينا أن نعترف بأن هذه الاختلافات يكمل بعضها بعضًا، ويجب علينا أن نعمل على تنظيمها في شكل اتحادات إقليمية"… كذلك نادى الرئيس التونسي الحبيب بورقيبة بمبدأ الإقليمية صراحة عندما أقر بأن "الاتفاقيات الإقليمية سوف تؤدي دورًا مهمًا في تطوير إفريقيا".
وقد ألقى هذا الوضع بظلاله على التعاون المائي بين دول حوض النيل، فنلاحظ أن عقد السبعينيات هو عقد ظهور المنظمات الفرعية في حوض النيل، وتبنى مبدأ التنمية الشاملة من خلال تلك المنظمات الإقليمية الفرعية، كمقدمة ضرورية للوصول إلى مفهوم جديد لنظام التكامل الإقليمي في حوض النيل.
وأسفرت جهود دول الحوض عن ظهور ثلاث آليات إقليمية فرعية تختص كل منها بتنظيم استخدامات "جزء معين" من نهر النيـل، تلك الآليات هي الهيئة الفنية الدائمة المشتركة لمياه النيل بين مصر والسودان والتي أنشئت بمقتضى اتفاقية عام 1959، والتي تعد من أفضل نماذج التعاون المائي، وكالة طاقة البحيرات العظمى التي تأسست في عام 1970 بين رواندا وبوروندى والكونغو، ومنظمة حوض نهر كاجيرا التي تأسست في عام 1977 بين رواندا وبوروندى وتنزانيا، ثم أوغندا فيما بعد، وسوف نتناول لاحقًا تلك المؤسسات الفرعية بشيء من التفصيل- إن شاء الله.