في مجموعة بلدان العالم الثالث ـ الفقراء إلى الله تعالى ـ لا تملك إلا الشفقة على علماء ورجال الاقتصاد؛ لأنهم في هذه البلدان كـ "البندقة" بين فكَّي "كسَّارة البندق": رجال السياسية من جهة والجماهير من الجهة الأخرى! فهم في حيرة بالغة بين رجال السياسة الذين يمنحون الوعود الحنجورية المجانية للجماهير بالرفاهية ورغد العيش؛ طمعًا في الاستمرارية على كراسي السلطة والنفوذ؛ وبين الجماهير التي تعاني شظف العيش وتحاول أن تلوي رقبة الواقع المرير لمجرد استمرارية نبض الحياة في شرايين قلوبهم الواهنة!
فرجال السياسة لا ينظرون إلا تحت خطى أقدامهم فقط؛ لتحقيق المكاسب الوقتية السريعة وليذهب الجميع إلى الجحيم، أما رجال الاقتصاد فإنهم يدخلون في متاهات جداول اللوغاريتمات والحسابات المعقَّدة لنظرياتهم؛ فيكونون كالفلاَّح الذي يلقي بالبذرة ـ بذرة النظرية ـ في الأرض وينتظرون حصد النتائج، وفي معظم الأحيان تأتي رياح السياسة وسلوك السياسيين بما يُفسد الأرض والزرع والثمر!
وتلافيًا لكل هذه المشكلات؛ كانت الدعوة العالمية لتأسيس مجموعة العشرين؛ وهو منتدى تأسس سنة 1999 بسبب الأزمات المالية الطاحنة في التسعينيات من القرن الماضي، ويمثل هذا المنتدى ـ بتصرف ـ ثلثي التجارة في العالم وأيضا يمثل أكثر من تسعين بالمئة من الناتج العالمي الخام، بهدف الجمع المُمنهج لدول صناعية ومتقدمة مهمة؛ بُغية فتح حلقات نقاش قضايا أساسية لإصلاح الاقتصاد العالمي؛ وربما ـ من وجهة نظر الدول الكبرى ـ للحفاظ على ماء الوجه أمام الشعوب الفقيرة ـ التي امتصت خيراتها في الماضي بالاستعمار العسكري والثقافي ـ المتطلعة إلى بلوغ الحد الأدنى من العيش الكريم .
و لعل الخطوط العريضة المعلنة لهذه القمة؛ تفتح طاقة الأمل للشعوب ـ وبخاصة في عالمنا الثالث ـ حيث تناول جدول الأعمال العديد من القضايا المالية والاقتصادية والاجتماعية، من بينها الطاقة والبيئة والمناخ والاقتصاد والتجارة والرعاية الصحية والتعليم والعمل، وبحثت القمة الاقتصاد العالمي ومدى تأثير العوامل الهيكلية عليه، مثل الاختلالات العالمية ، بالإضافة إلى طرح المخاطر الرئيسة التي تهدده، واستهدفت القمة تشجيع الاستثمار في البنية التحتية، فضلا عن التدابير التي تهدف إلى زيادة تعزيز أساس التنمية المستدامة والمرونة المالية ضد الكوارث الطبيعية مثل تمويل مخاطر الكوارث، وتركيز النقاش على كيفية دفع طرق الابتكار والإبداع؛ لتحقيق النمو الاقتصادي وتعزيز الإنتاجية.
من هذا المنطلق كانت حتمية اشتراك "مصر" ممثلة في الرئيس عبدالفتاح السيسي، الذي حضر بوصفه رئيسًا للاتحاد الأفريقي، جنبًا إلى جنب مع رؤساء المنظمات الدولية المدعوين للمشاركة؛ والذي أكد في كلمته حرص مصر على أن تكون عضوًا فاعلاً في المجتمع الدولي لمكانتها وريادتها منذ قديم الزمن، حيث قال: "نعلم جميعًا أن مجتمعنا الدولي يواجه تحديات متعددة الأبعاد، تتعاظم جسامتها بشكل خاص في الإطار الإفريقي، ومنها تحقيق السلم والأمن، والقضاء على الفقر، ومكافحة الأمراض، ومواجهة تغير المناخ، والتصدي للهجرة غير الشرعية وغيرها، وتجسد مشاركتي في هذه القمة أهمية الاستماع إلى صوت قارتنا، وتوفر فرصة لاستعراض رؤيتنا تجاه مجموعة العشرين وتفاعلنا معها ... ". و " ... كما نؤكد العلاقة المتلازمة بين الأمن والاستقرار وتحقيق التنمية المستدامة، مع الحفاظ على الدولة الوطنية ومؤسساتها..." و" ... نرحب بالتعاون في إطار شراكة جادة مع مجموعة العشرين لتحقيق التنمية، وفق الخطط والبرامج الوطنية لدولنا، وأجندة 2063 التي تحمل رؤية القارة لتحقيق تنميتها المستدامة، وتتكامل مع أهداف الأمم المتحدة للتنمية المستدامة 2030 التي توافقنا عليها جميعًا..." و"... لعلكم تتفقون على أن دخول الاتفاقية الإفريقية القارية للتجارة الحرة حيز النفاذ في 30 مايو 2019 ينمِّي من فرص التجارة البينية، ويوسع السوق المتاحة أمام الاستثمار في قارتنا، ويعزز قدراتنا التصنيعية، ويوفر فرص عمل خاصة للشباب، ويزيد من مساهمتنا في سلاسل القيمة العالمية، ومن نفس المنطلق، فإن خطط تحقيق التكامل الإقليمي عبر تطوير البنية التحتية الإفريقية، وتنفيذ المشروعات العابرة للحدود، ومشروعات الطاقة، لاسيما الطاقة المتجددة، إنما تأتي على رأس أولوياتنا، وتتسق مع خيارنا الاستراتيجي في السير نحو الاندماج القاري ...".
إذن .. فلم تكن مصر حاضرة ـ فقط ـ لمجرد إثبات الحضور بين عوالم الكبار؛ بل لتفرض كلمتها الواعية بمقدرات الوطن ومدى الطموحات المشروعة من أجل تحقيق الرفاهية للشعب المصري، وإثبات سعي قيادته الوطنية المخلصة إلى تحقيق أقصى ما تستطيعه نحو استقطاب الشركات العالمية التجارية والصناعية للاستثمار ذي العوائد المجزية في مجالات الإنتاج الصناعي والزراعي والتكنولوجي بتنميةٍ مستدامة تحقق الآمال المرجوَّة للأجيال الحاضرة والقادمة .
والآن .. أظن أن "الكُرة" باتت في ملعب رجال الاقتصاد وبين أقدامهم؛ وأعتقد أنه لن يتم إحراز الأهداف المنشودة إلا بالتضافر المخلص من رجالات السياسة وصانعي القرار؛ لاغتنام تلك المجالات والأنشطة التي فتحت جسورها القيادة الوطنية بإستراتيجية واضحة المعالم، حتى نستطيع عن طريق التنفيذ الجيد لها ؛ أن نخرج من عباءة التبعية والخضوع لأوامر وخطط صندوق النقد الدولي، ولينجو رجال الاقتصاد والسياسة معًا .. من أنياب "كسَّارة البندق".