خلص المقال السابق عن نظرية ما بعد الحداثة والاقتصاد، إلى أن الاتجاهات الفكرية الحديثة ترفض كافة الاتجاهات والنظم التقليدية في الاقتصاد والسياسة والاجتماع وكل التخصصات؛ لأنها نشأت في عصور سابقة، وثبت فشلها في تحقيق أهدافها، وأنه يستحيل تعميم نظرية أو نظام في بيئات متباينة، وأزمنة وظروف مختلفة؛ ولذلك فإن عصر ما بعد الحداثة يشهد تقاربًا في الأفكار، خاصة في الاقتصاد والسياسة؛ حيث نجد ترامب يعلن صراحة انتهاء عصر حرية السوق، ويفرض ضرائب جمركية على المنتجات الصينية والأوروبية، وساركوزي رئيس وزراء فرنسا السابق يعلن أثناء أزمة الرهن العقاري انهيار الرأسمالية، والصين الشيوعية وتحت مظلة الحزب الشيوعي تتيح للقطاع الخاص حرية العمل، ويسهم بنحو 35% في التنمية، وألمانيا تسيرعلى نموذج حرية السوق الاجتماعية.
ومن ثم فالعالم يبحث عن مسارات ونظم جديدة للإصلاح والتنمية؛ لمواجهة الإخفاقات الكبيرة المرتبطة بعصر الحداثة والثورة الصناعية، وفي هذا المجال يرى بول كروجمان الحاصل على جائزة نوبل في الاقتصاد أهمية إعادة التوازن بين دور الدولة في التنمية وحرية السوق والقطاع الخاص؛ لأن حرية السوق وحدها ثبت فشلها وعجزهاعن تحقيق التنمية المرجوة، خاصة بعد أزمة الرهن العقاري؛ لأنه لولا تدخل حكومات الدول الكبرى لانهار الاقتصاد العالمي، خاصة للدول الرأسمالية؛ حيث ضخت الحكومة الأمريكية نحو 700 مليار دولار من أرصدة الحكومة لحفظ توازن السوق وحمايتها من الانهيار، وكذلك تدخلت حكومات فرنسا وغيرها من الدول الرأسمالية لحفظ توازن السوق.
ويضيف كروجمان أن للدولة دورًا مهمًا يختلف حجمه وأهميته من بلد لآخر ومن وقت لآخر؛ ولكنها تبقي المسئولة في كل الأحوال عن حفظ التوازن الاقتصادي، وإعادة توزيع الدخل وإشباع الحاجات الأساسية لكل مواطن وضمان حقوق الفئات الضعيفة والمهمشة من خلال إصلاح ما أفسدته آليات وحرية السوق.
والصين نموذج متميز في هذا المجال، كما أن الطفرة التي شهدتها بلدان شرق آسيا في العقود الأخيرة كان للدولة دور مهم، وهناك توازن في اليابان وتايوان وماليزيا، ورفضت كل هذه البلاد أفكار وتوصيات النيوليبرالية، وكذالك كوريا الجنوبية؛ بل إن مهاتير محمد قائد نهضة ماليزيا، قال: إن بلاده سارت على نهج تجربة مصر الاقتصادية في الستينيات.
كل ماسبق يؤكد أهمية فكرة التكامل بين دورالحكومة والقطاع الخاص هذا ما يسمي الشراكة بين الدولة والقطاع الخاص في التنمية، وهنا يؤكد العالم كروجمان أن مسألة تحديد حدود معينة بين ما يجب أن تقوم به الدولة وما يترك للقطاع الخاص مسألة نسبية، وتختلف من بلد لآخر، ومن وقت لآخر، كما تتوقف على مدى فاعلية وكفاءة وخبرات وتاريخ كليهما.
ويضيف العالم ستيجليتز وهو حاصل أيضا على نوبل في الاقتصاد أنه على القطاع الخاص أن يكمل ويساند الدولة لتحقيق التنمية والحفاظ على الدولة القوية؛ لأن إضعاف الدولة سينعكس سلبيًا على الجميع على المدى المتوسط والطويل؛ لأن الدولة الرخوة أو الضعيفة سوف تنكمش اقتصاديا وسياسيا، ويخسر الجميع القطاع الخاص والحكومة؛ والتجربة الروسية خير مثال يؤكد ذلك؛ حيث أدت الخصخصة والنيوليبرالية، مع انحسار دور الدولة في عهد جورباتشوف إلى انهيار الدولة تماما، وتدهور وتراجع معدلات النمو الاقتصادي مع تضاعف نسبة الفقر وانحسار الطبقة الوسطى وانتشار الفساد الإداري، وتراجع أو اختفاء دور الدولة العالمي والإقليمي، وأصبحت روسيا دولة رخوة أو شبه دولة، ومع قدوم بوتين للحكم عام 2003 تصاعد دور الدولة؛ كتوجه في إدارة النشاط الاقتصادي، خاصة في المجالات الأساسية مثل: قطاعات النفط والغاز والطاقة والمالية والسلاح والتركيز على البعد الاجتماعي مما أنعش الاقتصاد ورفع معدلات النمو في الصناعة والزراعة وخفض معدلات الفقر وحسن أحوال الطبقة الوسطي، وسدد معظم ديون العصر السابق، وحقق فائضا في الموازنة العامة والميزان التجاري، والأهم عادت روسيا دولة قوية واستعادت كثيرًا من مكانتها العالمية؛ بفضل تدخل الدولة.
وما حدث لروسيا في عصر جورباتشوف يذكرنا بما حدث لمصر في عصري السادات ومبارك؛ حيث كانت روسيا قبل جورباتشوف دولة قوية تعاني بعض المشكلات الاقتصادية؛ نتيجة توغل دور الدولة ومحاصرة أو إلغاء القطاع الخاص، فجاء جورباتشوف واستغل بعض هذه الأخطاء، وبدلا من الإصلاح والتصحيح كان الفساد والخصخصة؛ مما أدى لانهيار الدولة وأصبحت روسيا دولة رخوة ضعيفة وتتشابه الصورة لحد كبير مع مصر؛ حيث ترك ناصر مصر دولة قوية لها دور إقليمي وعالمي في تحرير أراضي وثروات العالم الثالث - كما يقول جمال حمدان - ويعترف بذلك قيادات تحرير العالم الثاث من كاستروا إلى جيفارا إلى منديلا وغيرهم واقتصاد قوي وفائض في الميزانية وتصنيع محلي اعتمد عليه كل بيت في مصر، وبالطبع كانت هناك سلبيات أهمها في الاقتصاد توغل دور الدولة بشكل أضعف أو قيد القطاع الخاص، وجاء السادات والحكومة تسيطر على نحو 80% من الإنتاج، وبدأت الخصخصة، وكان متوقعا إزالة القيود غير المنطقية التي فرضها ناصر على القطاع الخاص وتحريره؛ ليسهم بدوره في التنمية وتنطلق تنمية مصر بجناحيها العام والخاص، ولكن ما حدث في عصر السادات وبعده عصر مبارك كان بعيدا عن ذلك؛ حيث تم هدم وبيع القطاع العام كخردة في معظم الأوقات؛ لترك الحرية للقطاع الخاص في احتكار الاستيراد ونهب الشعب؛ والدليل أين منتجات القطاع العام التي كانت تغطي احتياجات البيت المصري من ثلاجة إلى تليفزيون إلى مروحة أو سخان أو سيارة أو ملابس بمختلف أنواعها.. وخلافه؛ إذا كانت بيعت للقطاع الخاص ليديرها فأين المنتج المصري الآن؟! والنتيجة أصبحت مصر شبه دولة - كما قال الريئس السيسي - وتضاعفت نسبة الفقراء والمديونية وانهارت الطبقة الوسطي بعدما كانت مصر اقتصاديا تسبق الهند وكوريا والصين.
وقال وزير الإنتاج الحربي إن نصيب الدولة الآن نحو 20% من الإنتاج في معرض حديث عن إنتاج الدولة للسيارة الكهربايئة، وهل تفكيك الدولة القوية في مصر وروسيا مصادفة أم استغلال من جانب بعض القوى لنقاط ضعف؛ يتم من خلالها تحويل الدولة القوية لدولة رخوة تعتمد على الخارج وتسير في ركب الدول الكبرى؟!
والله المعين..