أيام قلائل ويهل علينا شهر رمضان، وبدلاً من أن يكون شهرًا ندعم فيه صحتنا، تحول إلى شهر للإسراف بسفه في الطعام، وهو ما يخالف تمامًا الحكمة الإلهية من الصوم..
لاشك أن الجانب الروحي والإيماني لأحد أركان الإسلام هو أهم رسالة في شعيرة رمضان، لكنه من دون شك فرصة عظيمة لمن يعقلها لاستعادة اتزان الجسم ووزنه، والإقلاع عن التدخين وغيرها من الفوائد الصحية.
هذه الفوائد الصحية للصيام أكثر من أن تعد أو تُحصى، وتكفي الإشارة إلى أن عملية "تجويع" الخلايا لمدة تزيد على 15 ساعة يوميًا، تساعدها في التخلص من الفضلات الموجودة في داخلها، والتي تسهم في بقاء الخلية بحالة جيدة لمدة أطول، وهو ما يعني فوائد كبيرة لكل أعضاء الجسم، خاصة خلايا الدماغ.
وبرغم ما ينصح به الأطباء من الامتناع عن ملء البطون خلال الإفطار والسحور، حتى يتمكن الإنسان من أداء عمله، وبرغم ما يشدد عليه بعض المشايخ من أن حكمة الانقطاع عن الطعام والشراب هي الشعور بمعاناة الفقراء، داعين إلى البعد عن التبذير، فإن الواقع يقول إن إنتاجية الموظفين في الشرق الأوسط تنخفض بين 25 إلى 40% خلال رمضان، والمدخنون أقلهم إنتاجية بسبب التهيج المزاجي الذي يحدث لهم بسبب الحرمان من مصادر الكافيين، وقد ترتفع لديهم معدلات الإصابة بالصداع إلى 67%، كما أن الإنفاق على الطعام والشراب يرتفع إلى ثلاثة أضعاف!!
وما يؤسف له أن كثيرًا من المدخنين يفطرون على سيجارة، بل يستنشقونها قبل أن يشربوا الماء، ولا يقربون الطعام إلا بعد الانتهاء من تدخينهم، وفي الليل يدخنون بنهمٍ حتى يعوضوا ما افتقدوه خلال النهار، أو يقبلون على الشيشة التى لا تقل سوءًا عن السيجارة، إذ تشير ورقة بحثية صادرة عن منظمة الصحة العالمية إلى أن نفَس الشيشة الواحد قد يعادل 100 سيجارة!
ومن بين التحذيرات الطبية العديدة، هناك تحذير شديد اللهجة من أطباء القلب، من أن الإفطار على سيجارة أو تناولها بعد الإفطار مباشرة، قد يتسبب في أزمة قلبية حادة، ومن الممكن أن يعاني المدخن قصورًا في القلب، لكن غير ظاهر أو ما يسمى بـ"الذبحة الصدرية الصامتة"، لأن الجهاز المناعي لا يزال غير مهيأ للدفاع عن الجسم بشكل كامل، والرئة تكون مرتخية وتستقبل كمية كبيرة من الدخان، فمع الحر وطول ساعات الصيام يكون في الدم والدورة الدموية نسبة لزوجة عالية، وتناول السجائر يقلل نسبة الأكسجين في الجسم فجأة ويزيد أول أكسيد الكربون.
وإن اقتنص كل مُدخن فرصة رمضان الذهبية للتخلص تدريجيًا من أسر السيجارة، فمع نهاية رمضان يكون جسمه قد تخلّص تقريبًا من ترسبات النيكوتين، ولا يبقى إلا أن يتحلّى ببعض العزيمة للإقلاع نهائيًا عن التدخين حتى يتمتع بصحة جهازه التنفسي، وانتظام الدورة الدموية وضغط الدم، وتقليل خطر الإصابة بالأمراض الخطيرة كالسرطان والسكتة القلبية أو الدماغية، والتى يعد التدخين سببًا مباشرًا لها جميعًا.
لكن بدلاً من أن يكون رمضان فرصة حقيقية لتخفيف الوزن، فربما خرج الكثيرون منه وقد أضافوا إلى "كروشهم" المزيد، بحجة أنه لم يكن من السهل مقاومة موائد رمضان العامرة بأصناف الطعام والتهام الكثير من أطباق الحلويات، وهو ما يعني ببساطة ابتعادنا عن الحكمة الإلهية من الصيام، فنحن نُريح أجسادنا من الطعام نهارًا، لكنها تظل طوال الليل حتى منتصف النهار تعمل كطواحين الهواء!.
وهكذا حولنا رمضان، بدلًا من أن يكون فرصة لكل أسرة لالتقاط أنفاسها وخفض إنفاقها على الغذاء، ترى كثيرًا من الأسر المصرية حين يقترب الشهر الكريم ولسان حالها يقول "ربنا يستر"، طبعًا من حجم الإنفاق الذى يجب أن تدبر له موارده لتغطية نفقات رمضان.
فالأسرة المصرية التى تنفق 45% من إجمالي ميزانيتها على الطعام سنويًا بمقدار 200 مليار جنيه، وفق تقرير مركز المعلومات بمجلس الوزراء عن السنوات الماضية، يستحوذ شهر رمضان منها على 15% بمقدار 30 مليار جنيه، أي في اليوم الواحد مليار جنيه، والمؤكد أنه أكثر من ذلك هذا العام، فيكفينا أننا نستهلك خلال الأسبوع الأول من رمضان ما يقرب من 2.7 مليار رغيف و10 آلاف طن فول و40 مليون دجاجة!
من حق نفسك عليك أن تُشعرها بـ"جوع" الفقير في غير رمضان، ما يُحفزك لأن تطعمه في رمضان وفي غير رمضان، فتلك من أهم الحكم الإلهية من الصيام، وهي لا تعني دعوة لحرمان القادر من تناول الطعام في رمضان؛ بل دعوة للاعتدال، حفظًا للنفس والجسم وتحقيقًا للغاية المرجوة من صوم رمضان، وامتثالاً قبل كل شيء لقوله تعالى: "..وَكُلُوا وَاشْرَبُوا وَلا تُسْرِفُوا"، وهو ما يفسره بعض العلماء بأن الله تعالى جمع نصف الطب في نصف آية..
وكل عام وأنت بخير..