تتمنى أن تغمض عينيك وأول ما تفتحهما ترى أنك وسط زهور وورود ممتدة على مرمى بصرك، وستشعر وقتها بأن همومك قفزت من خارج صدرك، وخاصة بعد استنشاقك رحيقها، وسوف تغمرك سعادة لا توصف.
واللهم لا حسد فهذا ما يحدث لأهل هولندا عند يقظتهم وأثناء تجوالهم، فهنيئًا لهم بجنتهم التي أبدعوها بسواعدهم، وحافظوا عليها منذ أن توسعوا في زراعتها مع بداية القرن السابع عشر، وهذا شأن كل زائر وسائح تطأ قدماه هولندا، ولسان حاله يقول سبحان الله ما أبدعها، فقد جمع الهولنديون كل أنواع الزهور وجلبوها من كل بلاد العالم وزرعوها على أرضهم، ولم يصبهم كلل ولا ملل في رعاية أرضهم، ويكمن سر نجاحهم في عشقهم لأرضهم ورفضهم لتبديد أي شبر فيها دون زراعته.
وتوارث الإنسان الهولندي هذه الثقافة، حتى صارت عقيدة لديه، ولذا تأبى عيناه أن ترى قبحًا، ولذا تجده يتصدر قائمة أفضل مستويات المعيشة في العالم، ونصيبه من الناتج المحلي وصل إلى 48 ألف دولار في العام، من إجمالي الناتج المحلي للبلاد البالغ 879 مليار دولار، وتعد هولندا في نفس الوقت من أكبر الدول الأوروبية كثافة سكانية بسبب صغر مساحتها، التي يعيش عليها 17 مليون نسمة، وتضم جنسيات مختلفة وديانات متعددة، وعدد المسلمين فيها تجاوز المليون نسمة، ومع هذا فإن نسبة البطالة فيها منخفضة.
واعتمد الهولنديون على الذات، لما تتمتع بلادهم بمصادر دخل متنوعة من الثروات الطبيعية، وعرف وطنهم بأنه المركز المالي والتجاري لأوروبا منذ عدة عقود، وسيطر على عالم التجارة هناك، وترحلوا للتجارة، وفي الرحلات الاستكشافية حول العالم، وقاموا بتسويق وبيع البضائع الأسيوية وتوابلها داخل أوروربا، التي لم تكن تعرفها من قبل، وأصبحوا وسطاء تجاريين شطارًا، ولذلك تمثل أول الدول الأوروبية معرفة بثقافة التسامح، ورحبت بمفكري أوروبا الفارين من جمودها الفكري أمثال ديكارت وجاليليو، ولأهمية دور رجال الأعمال وغرفتهم التجارية في الاقتصاد، امتلكوا تأثيرًا قويًّا في اتخاذ القرارات السياسية، بحيث لا تضر قرارات قادتها بعلاقاتها التجارية الدولية، وهي تمتلك شركات كبرى عالمية لصناعة الكهرباء والصناعات الكميائية.
ولضيق مساحة هولندا فكل شبر فيها تتم زراعته حتى صارت بلدًا زراعيًا من الطراز الأول، ولكي يحافظ أهلها على استدامة خصوبة أراضيهم، يقومون بتسميدها بصفة مستمرة مستخدمين الآلات الزراعية الحديثة، لتستمر في تفوق إنتاجها الزراعي، وهذا يشترط توافر كميات ضخمة من الأسمدة في مخازنها، ولكيلا تضار ثروتها الزراعية وتلجأ إلى استيراد الأسمدة، سعت إلى تحقيق مفهوم التكامل الزراعي، فتوسعت في إنشاء مصانع الأسمدة، إلى أن تخطى إنتاجها الفائض المحلي وقامت بتصدير الأسمدة، ونحن في بلدنا مازلنا نبحث عن الاعتماد الذاتي على تصنيع الأسمدة المحلية بدلا من استيرادها، وقد تقع كارثة وتختلط بداخلها أسمدة فاسدة، كما حدث مع بذور الطماطم الفاسدة المستوردة التي أضرت بالمحصول في الموسم الماضي، وتمثل الثروة الزراعية في هولندا أحد الركائز الرئيسية للاقتصاد، وتعتمد صناعاتها بشكل مباشر على منتجاتها الزراعية من أغذية مصنعة، علاوة على أنها من أكبر الدول إنتاجًا للزهور وللورود، وبهذا تحتل هولندا المرتبة الثالثة على مستوى العالم في الصادرات الزراعية.
وكان من الضروري مع طبيعة هذا الشعب الذي يجيد استثمار موارده، أن يلي مرحلة تقدمه الزراعي مرحلة تفوقه في الإنتاج الحيواني، وقد انتشرت فيه مزارع تربية الحيوانات والطيور، ونجحت في أن تكون أكبر بلد أوروبي من حيث المزارع الحيوانية، وازدهر اقتصادها من إنتاج اللحوم والدواجن والألبان؛ ولأن أهل هولندا كما قلنا سابقًا يؤمنون بالحفاظ على بقاء تفوقهم في كل خطوة اقتصادية يخطوها، تتخذ السلطات الهولندية الإجراءات الاحترازية، وتضع الضوابط البيطرية الصارمة لمنع انتشار الأوبئة في مزارعها الحيوانية، والبلد الذي يحلم بحياة كريمة ويسعى إلى التقدم، عليه أن يمتلك مقومات نجاحه، ويحقق سياسة تكاملية في اقتصاده، ويعظم قيمة الاستفادة من موارده الطبيعية، كما يفعل الهولنديون، واستكمالاً في تنفيذهم مبدأ استغلال كل شبر، استفادوا بسواحلهم الصغيرة في مساحتها، والتي تطل على بحر الشمال في صيد الأسماك، ولاعتقاد الراسخ بتزاوج إنتاج الثروة الطبيعية مع التصنيع، انتقلوا تلقائيًا إلى المرحلة التالية في صناعة وتجارة تعليب الأسماك والمأكولات البحرية، وحلم التجربة الهولندية ليس ببعيد عن كثير من دول عربية غنية بمواردها الطبيعية، برغم أن نصف أراضي هولندا تقع تحت مستوى سطح البحر، فلنبدأ بشفرة نجاح التجربة الهولندية وهي رحيق الزهور.