Close ad

بناء الشخصية والهوية الوطنية (2)

31-1-2019 | 23:44

عطفًا على ما كتبته بمقالي السابق حول بناء الشخصية والهوية الوطنية، وتبني وزارة الأوقاف والمجلس الأعلى للشئون الإسلامية المثمن لهذه القضية في مؤتمرهما "بناء الشخصية الوطنية وأثره في تقدم الدول والحفاظ على هويتها"، جنبًا إلى أطروحات بعض دعاتنا، أضيف أن من ثمار هذا المؤتمر الهادف، عددًا من الأبحاث والدراسات بلغ اثنين وأربعين بحثًا، بذرت بذور هذا البناء حفاظًا على هويتنا.

الدكتور محمد الشحات الجندي رئيس الجامعة المصرية للثقافة الإسلامية بكازاخستان عضو مجمع البحوث الإسلامية في بحثه الماتع "بناء الشخصية الوطنية في عالم متغير رؤية إسلامية"، رصد لنا أهم التحديات التي تواجه هذا البناء، فيذكر معوقات الطوفان التكنولوجي والمادي الذي جعل الشخصية المسلمة عاجزة عن تقديم نموذج الإسلام الحق، تفتقد الرؤية لصناعة حاضر ناهض تواجه به تحديات العصر التي تحاصرها في شتى المجالات، كما أن هناك تحديات أخرى مثل الظلم والتكبر والإلحاد وإنكار عطاء الدين، والتخلف الاقتصادي والمعيشي، وخلخلة التماسك الاجتماعي، والفرقة، والاختلاف، وانشطار المسلم بين دين قدم له كل شيء وحاضر حاصره في كل شيء، وأضيف لفضيلته التدهور والانحدار الأخلاقي والسلوكي الذي وصل له حال نشئنا وشبابنا، الذي نراه رأي العين في كل مكان حولنا.

من التحديات أيضًا التي تواجه العقلية والشخصية الوطنية المسلمة، وكنت قد أثرتها مع المفكر الشاب الدكتور أحمد ربيع الأزهري سلفًا، ذكر لي أنه لابد وجوبا لنا من تأسيس ثلاثة أنواع من الفقه أوله: "فقه الإحياء"، وثانيه: "فقه الائتلاف"، وثالثه: "فقه الريادة"، هذه الأنواع الثلاثة تعمل على إعادة الحياة للجسد المسلم، ووضع رؤية لإعادة بنائه وتماسكه والقضاء على بؤر الصراع التي انتشرت بين ربوعه، وإيقاف نزيف الدم من جروحه، وتنشيط هذا العقل، بإحياء ذاكرته الحضارية، وإعادة الثقة للذات المسلمة، وأنها قادرة على الريادة والتأثير ليس في محيطها العربي والإسلامي فقط؛ بل في المحيط الإنساني، وكيف يسهم هذا العقل المسلم في انتقال الأمة من مرحلة التوقف الحضاري إلى مرحلة الاستئناف الحضاري، ثم الانطلاق نحو الريادة الحضاري، وبقدر الوعي الفردي والجمعي بقيمة الهوية والاستمساك بها، تبرز قوة الشخصية وتفوقها، وقدرتها على العطاء لنفسها ولكل المحيطين بها، مما يكون السند والظهير للوطنية، والتماسك المجتمعي، والإحساس بقيمة الأمة والدولة في عالم تتنافس فيه الدول والأمم.

أيضًا لابد لزامًا علينا تربية الفرد على الثقة بالله والثقة بالنفس وتحمل المسئولية، واكتشاف مواهب المبدعين وتأهيلهم للنبوغ والعبقرية في الناشئة والشباب، وهو ما يتعين على الأسرة والمدرسة والجامعة والمراكز الإنتاجية والخدمية والمؤسسات المختلفة في المجتمع والدولة اكتشافهم، وتوفير بيئة حاضنة لهم، ورعايتهم على الدوام، دقًا لناقوس الخطر، وتصحيحًا للوضع الأخلاقي المزري المأزوم للمسلم فردًا، ومجتمعًا، وأمة، الذي نحياه للأسف، والذي لم ينشأ مصادفة، أو ينبت من فراغ، أو يهبط علينا فجأة، إنما نتج محصلة لتضييع صناعة الفرد المسلم، الذي من موجبات تكوينه.

"صناعة القدوة"، التي يتخذها الناشئة مثلا أعلى وصراطًا مستقيمًا يستهدون به، ويسترشدون تجارب نجاحه، وتقديم حياة الأعلام العرب والنوابغ في الأدب والعلوم والاختراعات والاكتشافات والبطولات في أسلوب قصصي يجذب الطفل إلى قراءته، ويرسي قيمة المواطنة والانتماء، وبناء الشخصية الوطنية السوية. مثل: الزهراوي أبو الجراحة، وتقي الدين بن معروف أبوالتقنية "التكنولوجيا"، والأنطاكي أبوالصيدلة، وابن ماجد أسد البحار، والطوسي أبوحساب المثلثات، كما تذكر الدكتورة سيدة حامد عبدالعال الأستاذ بكلية الآداب ــ جامعة حلوان في بحثها "أهمية مرحلة رياض الأطفال والتعليم الأساسي في بناء الشخصية الوطنية".

ونحمد الله أن معين مصرنا الحبيبة خصب، لا ينضب أبدًا، وكم هناك من نماذج لا تعد ولا تحصى من نشئنا وشبابنا المخترعين، ينتظرون فقط من يأخذ بأيديهم، ويرعى ابتكاراتهم ومنجزاتهم البديعة، التي تعج بها أرفف الهيئات المختصة بمنح براءات الاختراع، وجمعيات المخترعين.

كما لابد أيضًا من إبراز دور الأئمة ومؤسساتنا الدينية في نشر تعاليم الدين الإسلامي الصحيح، والتركيز على غرس القيم الدينية والأخلاقية في عادات وسلوكياتنا، بين شبابنا ونشئنا، بالتحدث معهم –أبدًا ودومًا- في مدارسهم وجامعاتهم، ولا ينكر أحد دور الدين في تفعيل الحياة الاجتماعية، ويكفي أن تستقل مترو الأنفاق وتشاهد وتسمع - كما رأيت - سب الدين من الناشئة والصبية لبعضهما في أريحية تامة، دون وازع حيائي من الله، أو أخلاقي من المستقلين الكبار سنًا الذين ينهرونهم، ومع ذلك تراهم يردون - في بجاحة - "وانت مالك؟"، أو ترى صبيًا ينعت نفسه، بعد أن خسر وهو يلعب على موبايله: "أنا ابن حرام"، أو ترى شابًا وفتاة جامعيين في وضع حميمي بمترو الأنفاق، أو بساحات أكبر جامعات مصرنا، دون اكتراث أو اعتبار من جلوس، أو رائح أو غاد، والأمثلة كثيرة، وقد أوردتها سلفًا في العديد من مقالاتي.

ختامًا.. القضية كبيرة، وجد خطيرة، ولا يجوز الغفلة عن تربية الفرد على أصول هويته، ولا يجوز للدولة ومؤسساتها المختلفة أن تتوانى عن ترسيخ وتعزيز تلك الهوية الخلاقة التي ينتمي إليها، ولم يعد أمام مصرنا وأمتنا الإسلامية خيار آخر إلا خيار التجديد، ونفض الغبار الذي تراكم على عقلية الكثيرين من أبناء المسلمين، بناء لشخصية مسلمة وطنية قادرة على مواصلة التحديات المعاصرة، وما أحلى الكلام، وما أقسى الأفعال.

[email protected]

كلمات البحث
اقرأ أيضًا:
المعذرة العملية لله ورسوله

المعذرة العملية لله ورسوله

ملتقى القاهرة الدولي الخامس للخط العربي

بادئ ذي بدء، أسجل عشقي وهيامي بفن الخط العربي كفن إسلامي أصيل يأخذ بالأفئدة والألباب قبل أخذ الأبصار، ذلك أنه حاضن رئيس لوعاء هويتنا العربية والإسلامية

عمارة.. ونشر علمه وفكره

عمارة.. ونشر علمه وفكره

صناعة التطرف والعنف .. بفيلم كارتون

أثار انتباهي هذا التقرير المنشور للزميلة إيمان عباس بـ"بوابة الأهرام" تحت عنوان (صناعة التطرف والعنف تبدأ بـ"قصة وفيلم كارتون".. والبرلمان يفتح الملف)،

تعلموا الحب الحقيقي

لا حديث الأمس واليوم وغدًا، يسيطر على عقول الكثير منا، إلا الحديث عن "عيد الحب"، "الفلانتين" والترتيب لإحياء ذكراه، لينعم فيه كل محب بحبيبه - حالمًا وواهمًا

القاهرة عاصمة للثقافة الإسلامية

في خبر سار يضاهي واقع ومكانة قاهرتنا وتاريخها الإسلامي التليد، أعلن في التاسع عشر من الشهر الماضي - وعبر المنظمة الإسلامية للتربية والعلوم والثقافة "إيسيسكو"-

الطيب.. والخشت.. وأهل الفتن

الطيب.. والخشت.. وأهل الفتن

الليبرالية .. التخلص من قيود السلطات الثلاث

الليبرالية .. التخلص من قيود السلطات الثلاث

حضارة نبينا.. نموذج عملي لحياتنا

عن أبي هريرة رضي الله عنه، أن النبي صلى الله عليه وسلم قال: خمس من الفطرة: الختان، والاستحداد، وقص الشارب، وقلم الظفر، ونتف الآباط

متى استعبدتم الناس وقد ولدتهم أمهاتهم أحرارا؟

عطفًا على حديثي بمقالي السابق "هذا هو الإسلام"، الذي تحدثت فيه عن حملة وزارة الأوقاف العالمية الدعوية "هذا هو الإسلام"، التي أطلقتها لهذا العام بأكثر من

هذا هو الإسلام

جميل، وبديع، ومثمن، صنيع وزارة الأوقاف حين أطلقت حملتها العالمية الدعوية لهذا العام "هذا هو الإسلام" بأكثر من عشرين لغة، بيانا لصحيح الإسلام للدنيا بأسرها،

نعم.. تستطيع الدراما

بحكم طبيعة عملي الصحفي، وركضي الحثيث للبحث عن المعلومة الموثقة الهادفة التي أقدمها لقارئي الحبيب، أجدني مقلا في متابعة الأعمال الدرامية على مختلف أنواعها،