يرى د.ميلاد حنا، أن تفجر الحرب الطائفية في لبنان بواسطة الأعداء والاستعمار؛ قد أدت إلى حرب أهلية خطيرة، استنزفت لبنان، ومن هنا كان الخوف من تكرار هذه المحاولة في مصر، ومن ثم أهمية مواجهة هذه القضايا ودراستها بعمق لتحديد أسبابها، وسبل المواجهة وعدم الاكتفاء بشعار دع الفتنة نائمة؛ لأن هذه الفتن خطيرة ومهمة على أمن الوطن.
ولقد جرت محاولات متعددة لإثارة هذه الفتن في مصر، وخاصة في عصر الرئيس السادات، ولكن النسيج المصري غير لبنان؛ لأن العلاقة بين عنصري الأمة من مسلمين وأقباط جديرة بالدراسة لأسباب عدة أهمها؛ أن أقباط مصر ينتمون إلى التراب المصري والنيل، ولا يمكن بطبيعة التراث والتاريخ إلا يكونوا مصريين وطنيين، وهم بالتالي يحملون كل الخصائص الحضارية للشعب المصري ككل؛ مثل البساطة والصبر والطيبة والبعد عن العنف، وهو تراث مستمد من الحضارة الزراعية المستقرة من آلاف السنوات للمسلمين والمسيحيين معًا، ومن ناحية أخرى ينتشر الأقباط في مصر انتشار الماء والهواء، جنبًا إلى جنب أشقائهم المسلمين في كل بقاع المحروسة ريفًا وحضرًا، ومنهم المثقف والفلاح والعامل والأمي - في نسيج متكامل للشعب المصري.
كما تختلف مصر عن لبنان في البيئة الطبيعية؛ حيث إن مصر واد منبسط سهل يتمتع بحكم مركزي، فمصر هي أقدم دولة في التاريخ، وبها جيش وطني قوي ومنضبط، ولكن لبنان جبال وسلاح منتشر وموجود في يد كل رجل وامرأة وكل منطقة أو جبل يعيش فيها طائفة أو جماعة تدعي لها عرق أو مذهب أو مصلحة مختلفة عن الأخرى.
فهناك مثلا جبل الشوف للدروز، وجبل آخر للموارنة الذين يزعمون أنهم فينيقيون وليسوا عربًا، والمذاهب المسيحية متعددة تشمل الكاثوليك والأرثوزكس والكلدان والنساطرة، والبروتستانت، وأيضًا المسلمون بلبنان شيعة وسنة، ولكن مصر متجانسة؛ ولذلك نجحت مؤامرات الفتنة في لبنان وهذا لا ينفي خطورة ما شهدته مصر من أحداث طائفية منذ السبعينيات في الخانكة والزاوية الحمراء، وما تبع ذلك من اعتقالات سبتمبر 1981 بدعوى احتواء الفتنة الطائفية، وتم خلالها اعتقال الكاتب د.ميلاد، مع غيره من كافة ألوان الطيف السياسي، وكان منهم رجال دين مسلمين ومسيحيين، وجاء الرئيس مبارك وأفرج عن المعتقلين، وهدأت الفتنة لحد كبير؛ لأن المصري؛ سواء كان مسيحيًا أو مسلمًا فهو نتاج حضارة "الأعمدة السبعة" السابق تحديدها في الإسلام والمسيحية في مصر، نتيجة تراكم رقائق الحضارات السابقة، ولذلك لا توجد في مصر فكرة "الجيتو" أو حي مخصص لاتباع دين أو مذهب معين كما يمارس الأقباط كافة الحرف مع أشقائهم المسلمين.
أما تعليقي على قضية الفتنة الطائفية، فهي تمثل اليوم أخطر قضية يحاول العدو إثارتها لتمزيق الأمة العربية، ومن هنا حذر د.ميلاد مبكرًا من تجاهلها أو الاستهانة بها؛ حيث تصاعدت القضية داخل كل قطر لتمزيق أوصال الأمة كلها؛ من خلال محاولة إشعال حرب بين السنة والشيعة لحساب إسرائيل.
وأتفق تمامًا مع د.ميلاد في أهمية وخطورة القضية، وأعتقد أنها اليوم أكثر خطورة وأهمية من أي وقت سبق، وأتفق تمامًا من أن العدو هو المدبر لهذه المؤامرات، ولكن علينا أن نتذكر أن المؤامرات موجودة منذ قابيل وهابيل، ولكن نجاحها يتوقف على استغلال نقاط ضعف موجودة في هذا المجتمع أو النظام، فمثلا حرب السويس 1956 مؤامرة من ثلاث دول، ولكنها لم تنجح لأن النظام المصري كان من القوة التي استطاعت الصمود وإفشال المؤامرة.
ومن هنا أهمية مواجهة مشكلاتنا الداخلية داخل كل قطر، ثم مشكلاتنا مع الأشقاء لتقوية مواقفنا؛ للصمود أمام المؤامرات، ومشكلاتنا تتركز في الجهل والفساد وغياب العدالة الاجتماعية والديمقراطية؛ لأنه من الجنون أن ننساق وراء دعاوى العدو أن إيران هي العدو الحقيقي للعرب، ويجب مواجهتها؛ لأن خطوات إيران التوسعية وهي حقيقة، ولكنها ليست العدو الحقيقي فهي مجرد عرض وليست هي المرض، كما أن إيران ليست وحدها التي تسعى للتوسع على حساب العرب؛ لأن تركيا أيضًا تتوسع داخل سوريا، ولها أطماع أخرى في العراق، ثم هل نسينا القدس ثالث الحرمين - اتقوا الله في شعوبكم، واحتلال فلسطين وضم القدس والسعي الآن حثيثا لضم الجولان - رسميًا لدولة العدو، فهل إسرائيل اليوم الصديقة المتحالفة ضد إيران المشكلة الحقيقية ذكرها مفكر مصر العظيم جمال حمدان، حينما قال إن هناك ثلاث قوى عظمى في الشرق الأوسط بجانب إسرائيل كل منها تسعى وتتنافس لتوسيع دورها ونفوذها في المنطقة وتراجع قوة أي من هذه القوى سيترك فراغا تملأه أي من القوى الأخرى، ومصر الستينيات كان لها الدور الأكبر، ولكن تراجع قوة مصر الداخلية ثم الخارجية في السبعينيات وما بعدها أدى لفراغ استغلته إيران وتركيا وإسرائيل حتى في الفن، ومن هنا المشكلة فينا والحل أيضًا يحدده مفكرنا "حمدان"، بقوله "إن قوة العرب مرتبطة بقوة مصر"، والعكس صحيح، وقوة مصر والعرب مرتبطة بقوة الداخل؛ المتمثل في جودة التعليم والعدالة الاجتماعية، ودرجة عالية من الاكتفاء الذاتي في الزراعة والصناعة، وعلينا الاعتراف بنجاح كبير للدول الثلاث في هذا المجال تركيا وإيران وإسرائيل.
ومن هنا الحل بأيدينا كعرب لمواجهة الفقر والجهل والفساد من خلال تنمية صناعية زراعية تعتمد على العدالة الاجتماعية والتكامل العربي، لأن العدو داخلنا وليس إيران، وإذا طبقنا المثل العربي أن عدو عدونا صديقنا، فستكون إيران من الأصدقاء؛ لأنه من المؤسف أن إسرائيل اليوم تخشى إيران أكثر من أي طرف آخر - والله الموفق..