Close ad

هل فهمت يا ولدي؟

10-1-2019 | 22:45

عاتبني ولدي منتقدًا ما كتبته عنه وأبناء جيله من نشئنا وشبابنا عن استقائهم أخلاقهم ومبادئهم وخبراتهم التربوية والعملية والاجتماعية والحياتية من علماء الغرب، أساتذة ومدربي علم التنمية البشرية وتطوير الذات المنتشر في مصرنا ودولنا العربية، واعتراض ولدي علىَّ أنني عممت فكرة عدم الأخذ من الغرب، مؤكدًا لي أن الغرب ليس كله شرًا بذاته، بل منهم نتعلم الكثير والكثير في حياتنا المختلفة.. إلخ.

ولما كان الحق أحق أن يتبع، بات لزامًا وحقيقًا علىَّ توضيح وجهة نظري المساء فهمها من ولدي والكثير من شبابنا، ذلك أن ما هدفت منه أن بديننا وفكرنا وحضارتنا الإسلامية علماء وأخلاق ومُثل يمكننا أن نسير عليها، ونتخذها دستورًا لحياتنا ومنهاجًا لتجاربنا الاجتماعية والشخصية وتطويرًا للذات لأنفسنا وللآخرين، بل في علاقتنا بربنا - سبحانه - كما أنني لا أغفل ولا أنكر نكرانا بيَّنا دور الغرب وحضارته علينا نحن المسلمين، كما لا يُغفل دور ديننا الإسلامي وحضارته ومفكريه وعلمائه على الغرب الأوروبي وأهله، حين كانوا يعيشون في جاهلية وظلام عصورهم الوسطى حالكة السواد، يعانون جمودًا فكريًا وركودًا حضاريًا، فكان مفكرو وعلماء وحضارة الإسلام طوق النجاة لهم حينما أمسكوا بطرفها.

ولأترك للمستشرق "ويل ديورانت" يدلل لنا بشهادته ما ذكرته في موسوعة "قصة الحضارة الإسلامية" حين قال: عندما يتم مسح أدق وأشمل تراث، يصنف القرن العاشر في المشرق الإسلامي كأحد العصور الذهبية في تاريخ العقل الإنساني، وأن قصتنا تبدأ من الشرق، لا لأنه كان مسرحًا لأقدم المدنيات فحسب؛ بل لأن تلك المدنيات كانت البطانة التاريخية لثقافة أوروبا، وكم كان نظامنا الاقتصادي والسياسي، وكذلك علومنا وأدابنا وفلسفتنا وديننا يرتد الى الشرق.

المؤرخ الفرنسي "سديو" يسجل أيضًا فضل العرب على الأوربيين قائلا: "إن الأوربيين قد استمدوا ثقافتهم من العرب، ومثال ذلك إدخال البابا يسلوا ستور الثاني مناهج مادة الرياضيات العربية إلى مدارس الإفرنج عام 980 للتدريس دون تحوير، وإنه من المؤسف أن يسدل الستار على مديونيتنا للعرب، وقد آن الأوان للاعتراف بالأمر الواقع، فالإصرار على التعصب الديني والتباهي العنصري لا يجدي"، وفى كتابه "مدينة السلام" يعترف "ريتشارد كوك" بأن أوروبا تدين بالكثير لإسبانيا العربية، فقد كانت قرطبة سراجًا وهاجًا للعلم والمدنية في فترة كانت أوروبا لا تزال ترزح تحت وطأة القذارة والبدائية.

ثم تشاء إرادة الله أن يرد إليهم الكرَّة بأموال وحضارة فائقة التكنولوجيا نتنعم بها الآن، وهذا لا ينكر، سنة لمشيئته الربانية "وتلك الأيام نداولها بين الناس"، التي تثيب المجتهد، حتى وإن كان على غير ملة الإسلام، عدلا لحكمته.

عندما تحدثت عن علماء التنمية البشرية وتطوير الذات الغرب، لم أكن أقصد مطلقًا قدحًا فيهم، ولا الإقلال منهم البتة، بل تحيز لديني وحضارته وفكره وأخلاقه، متفقًا في ذلك مع ما أورده المفكر الإسلامي الجزائرى القدير "مالك بن نبي" في كتابه "مشكلة الأفكار في العالم الإسلامي"، حين ذكر أن المؤرخ البريطاني الشهير "أرنولد توينبي" يرى أن أهم العوامل في قيام الحضارة يتمثل فيما أسماه "نظرية التحدي والاستجابة"، موضحًا أن التحدي يثير القوى الكامنة في المجتمع، ويؤدي إلى تعظيم طاقتها وقدرتها على مقاومة العقبات والمشكلات والتحديات العارضة، ومع ذلك ينقد "مالك" هذا الرأي، مرتضيًا رأيًا آخر لبعض فلاسفة الحضارة، ممن يؤمنون بأن الدين هو أكثر العوامل تأثيرًا في بناء الحضارات، وإن كنت أؤمن بالرأيين معًا، مقدمًا عامل الدين أولا قبل التحدي والاستجابة، وهذا ما أريده بشبابنا، وعلمائنا ومدربينا، أن يتحدًّوا أنفسهم بديننا، مستخرجين قواهم وطاقاتهم الإبداعية بمجتمعهم، متغلبين على كل العقبات والمشكلات المعرقلة لهم.

ومع هذا لا أنكر فضل علماء الغرب على الكثير من رواد التنمية البشرية بعالمنا العربي أمثال العالم الجليل المرحوم إبراهيم الفقي رائد علم تطوير الذات والبرمجة اللغوية في وطننا العربي ومصر، ويكفي أن نعلم أنه كان تلميذًا نجيبًا للعلم الغربي الأوروبي، عندما حصل خلال مسيرته العملية على ثلاثة وعشرين دبلوما في تخصصات علم النفس والإدارة والتسويق والتنمية البشرية بكندا، كما كان يذهب للدراسة في جامعة "كونكورديا" الكندية بعد انتهاء عمله بالمطعم الصغير الذي كان يعمل به، ثم بعد ذلك كله يؤلف لنا ما يقرب من 35 مؤلفا مكتوبًا، هذا غير مواده العلمية المرئية والمسموعة وأسطواناته الرقمية، مطوعًا علمه هذا كله لمنظور إسلامي أخلاقي عملي.

ولرب مقولة فضيلة الإمام محمد عبده الخالدة "ذهبت للغرب فوجدت إسلامًا ولم أجد مسلمين، ولما عدت للشرق وجدت مسلمين ولكني لم أجد إسلامًا"، عندما زار الغرب الأوروبي وشاهد حضارته وعلمه برغم صدقها وحقيقتها، بما تعكسه من واقع مخز لنا، ومصدر إعزاز وفخر لهم، تجسدًا واقعًا مازال قائمًا.

ختاما ما ذكرته في مقالاتي السابقتين، إنما أحاول به وضع حلول ذاتية لشبابنا، لنهضة أمتنا وإخراجها من عوامل التقهقر والتخلف التي أحاطت بنا سلوكًا، وأخلاقًا، وحضارة، وعلمًا، دون إنكار لجهود الغرب الحضارية الخيرية، التي أُفيض علينا من خيرها، ودعوة لاستنهاض هممنا الحضارية الإسلامية التي تغط الآن في غيبوبة وسبات عميق، لا نعلم متى ستنهض منها؟

كلمات البحث
اقرأ أيضًا:
المعذرة العملية لله ورسوله

المعذرة العملية لله ورسوله

ملتقى القاهرة الدولي الخامس للخط العربي

بادئ ذي بدء، أسجل عشقي وهيامي بفن الخط العربي كفن إسلامي أصيل يأخذ بالأفئدة والألباب قبل أخذ الأبصار، ذلك أنه حاضن رئيس لوعاء هويتنا العربية والإسلامية

عمارة.. ونشر علمه وفكره

عمارة.. ونشر علمه وفكره

صناعة التطرف والعنف .. بفيلم كارتون

أثار انتباهي هذا التقرير المنشور للزميلة إيمان عباس بـ"بوابة الأهرام" تحت عنوان (صناعة التطرف والعنف تبدأ بـ"قصة وفيلم كارتون".. والبرلمان يفتح الملف)،

تعلموا الحب الحقيقي

لا حديث الأمس واليوم وغدًا، يسيطر على عقول الكثير منا، إلا الحديث عن "عيد الحب"، "الفلانتين" والترتيب لإحياء ذكراه، لينعم فيه كل محب بحبيبه - حالمًا وواهمًا

القاهرة عاصمة للثقافة الإسلامية

في خبر سار يضاهي واقع ومكانة قاهرتنا وتاريخها الإسلامي التليد، أعلن في التاسع عشر من الشهر الماضي - وعبر المنظمة الإسلامية للتربية والعلوم والثقافة "إيسيسكو"-

الطيب.. والخشت.. وأهل الفتن

الطيب.. والخشت.. وأهل الفتن

الليبرالية .. التخلص من قيود السلطات الثلاث

الليبرالية .. التخلص من قيود السلطات الثلاث

حضارة نبينا.. نموذج عملي لحياتنا

عن أبي هريرة رضي الله عنه، أن النبي صلى الله عليه وسلم قال: خمس من الفطرة: الختان، والاستحداد، وقص الشارب، وقلم الظفر، ونتف الآباط

متى استعبدتم الناس وقد ولدتهم أمهاتهم أحرارا؟

عطفًا على حديثي بمقالي السابق "هذا هو الإسلام"، الذي تحدثت فيه عن حملة وزارة الأوقاف العالمية الدعوية "هذا هو الإسلام"، التي أطلقتها لهذا العام بأكثر من

هذا هو الإسلام

جميل، وبديع، ومثمن، صنيع وزارة الأوقاف حين أطلقت حملتها العالمية الدعوية لهذا العام "هذا هو الإسلام" بأكثر من عشرين لغة، بيانا لصحيح الإسلام للدنيا بأسرها،

الأكثر قراءة