تجولت ببصري داخل القاعة التي تجمع فيها مئات المصريين والضيوف العرب والأجانب؛ ليشهدوا لحظة تاريخية حقيقية بالعاصمة الإدارية الجديدة، فرأيت وجوهًا مصرية خالصة مشرقة ومبتسمة ومقبلة على الحياة، وتكسوها أمارات الصفاء والتسامح والوئام.
رأيت أناسًا يجلسون جنبًا إلى جنب، ويُعرِّفون بعضهم بعضًا بهويتهم الوطنية الخالصة، وليس أي شيء آخر، فهم مصريون محبون وحريصون على وطنهم، جاءوا ليكونوا شهودًا على افتتاح مسجد وكاتدرائية، وانصهر الكل في بوتقة الوطن، ودولة المواطنة التي تظلل الجميع وقادرة على استيعابهم واحتضانهم وحمايتهم.
المشهد بدا رائعًا وبديعًا ومتحضرًا ويُشعرك بالفخر الشديد، وأجمل ما في تفاصيله أن الدفء ساد المكان، وبفضله نسي الحضور الطقس القارس خارج القاعة، وكيف لا يسود الدفء ونحن أمام نفوس طاهرة نقية لا تضمر شرًا ولا كرهًا ولا تعصبًا مقيتًا، وتحمل قلوبًا محبة متآلفة، تؤمن بأن الأديان السماوية كلها تدعو للحب والتآخي وعمارة الأرض، وليس للقتل وانتهاك الحرمات وترويع الآمنين المسالمين في دور عبادتهم وأماكن عملهم ولهوهم.
المشهد زاد روعة وبهاء بكلمتي فضيلة الإمام الأكبر الدكتور أحمد الطيب شيخ الأزهر الشريف، وقداسة البابا تواضروس الثاني بابا الإسكندرية وبطريرك الكرازة المرقسية من أمام المسجد والكنيسة.
رسالة الطيب وتواضروس كانت تقريبًا واحدة، وهي أن المصريين عاشوا معًا في هذا البلد العظيم يدًا واحدة، ولن يقدر كائن من كان على فصلهم، أو الوقيعة وإحداث الشقاق بينهم، وأن التعايش بين الأديان هو الأساس والأصل، وليس التناحر والاختلاف والبغضاء.
وقبل كلام الطيب وتواضروس كان هناك بيان عملي شاهد على هذا المعنى الجليل، ففي الواقعة الخسيسة بعزبة الهجانة حاول إرهابي جبان زرع عبوات ناسفة مستهدفًا كنيسة مقابلة لمسجد؛ لتعكير صفو الاحتفالات بعيد الميلاد، ولم يتورع هذا الوغد البغيض عن وضع عبواته الشريرة فوق سطح مسجد، والذين تنبهوا وحموا الكنيسة والمسجد كانوا مواطنين مصريين يدينون بالإسلام، والذي سقط شهيدًا كان مواطنًا مصريًا مسلمًا، فهؤلاء هم المسلمون حقًا الواعون والعارفون بجوهر دينهم الداعي للرأفة والسلام والمحبة، وصون دور العبادة لغير المسلمين، والاستماتة في الدفاع عنها، وهو ما أكده الشيخ الطيب مستشهدًا بآيات بينات من القرآن الكريم.
المصريون البسطاء الذين دافعوا عن الكنيسة كانت أنظارهم مركزة على الوطن ومن يستهدفه بالسوء، في وقت احتفال الجميع بعيد ميلاد السيد المسيح، وبداية السنة الميلادية الجديدة.
فنحن كمواطنين شركاء في السراء والضراء، ولا نبغي سوى أن يسود الأمن والاستقرار ربوع هذا الوطن، وإن أردت دليلًا فانظر للآلاف الذين شاركوا في بناء مسجد الفتاح العليم، وكاتدرائية ميلاد السيد المسيح من المسلمين والأقباط، لم يخرج من بينهم من يقول كيف يُسمح لمسلم أن يبني كنيسة، ولا كيف يُشارك قبطي في تشييد مسجد؟
لم يحدث ذلك؛ لأن المسجد والكنيسة يقصدهما مواطنون راغبون في عبادة رب العالمين في سكينة وسلام، ومن أكثر المشاهد التي أعجبتني وتأثرت بها كثيرًا كانت الفيلم التسجيلي الذي تم بثه خلال الاحتفال لأطفال مصريين؛ يُمثلون النقاء والطهر في أبهي وأنصع أشكاله، ومن خلاله عبروا ببراءة عن المعدن الأصيل لأهل وطننا الجميل، فهم يُنظرون لمن حولهم في المدرسة والمنزل والنادي والشارع كأصدقاء متحابين، ويشاركونهم لحظات اللهو والمرح والجد والألم والحزن، فهم في نظرهم أصدقاء وأشقاء، دون أن ينشغلوا بما إذا كان هؤلاء الأصدقاء والأشقاء من المسلمين أو من المسيحيين.
فالفيلم في أوله وآخره دعوة بطريقة مبتكرة لنبذ التعصب والتطرف، وأن البعض هم من يغرسون شجرتها في نفوس النشء الغض، مثلما كان يفعل الإخوان الإرهابيون بالمدارس الخاضعة لسيطرتهم ونفوذهم لوقت طويل، لقد ساهموا بأفعالهم ومنطقهم المعوج في نشر الفتن والتكفير والإرهاب، وحرضوا على حرق الكنائس، فهم باحثون عن السلطة وبريقها ومنافعها، ومخادعون حتى النخاع، ويتاجرون بالدين، والوطن غير موجود على خريطتهم الشيطانية الإجرامية.
ولا أجد في الختام خيرًا من الدعوة الموجهة من قبل الرئيس السيسي من داخل كاتدرائية العاصمة الإدارية الجديدة بأن نغرس شجرة المحبة، حتى نحصد ثمارها الجميلة، وتمتد من مصر إلى خارجها، وأن نحافظ على الوطن فهو الأبقى والأعظم، وما عداه زائل، فحافظوا عليه بكل ما أوتيتم من قوة، واحذروا أصحاب الفتن والشائعات.