هذا ما دار بيني وبين ولدي فجرًا، قد تكون البداية مبهمة لدينا جميعًا لكن دعني أقص عليك الحكاية من بدايتها، فبينما أوقظ ابني فجرًا ليتهيأ للذهاب لكليته إذ بعيني تبصر كتابًا على مكتبه، يحمل عنوانًا غريبًا، ألا وهو "مميز بالأصفر.. مقرر مختصر في العيش بحكمة والاختيار بذكاء"، هكذا كان العنوان حرفيًا، وتحته اسم المؤلفين، وهما إتش جاكسون براون الابن، مؤلف "الكتيب الصغير الكامل لإرشادات الحياة"، وروتشيل بنينجتون.
وبفضولي الأبوي والصحفي، فتحت الكتاب لأستطلع محتوياته وما به من أفكار وموضوعات جعلت ابني الطالب الجامعي يقتنى هذا الكتاب ويشتريه، فإذا بي أجد محتوياته وأفكاره التي يدور حولها المؤلفان وقامًا بوضعهما فيه تمثل مجموعة من النصائح والإرشادات والحكم في الإحسان، الكرم، المتع البسيطة، التوجه الذهني، الزواج، الأبوة، شكر وتقدير، وقبل كل ما سبق من موضوعات، كانت المقدمة التي فيها يوضح المؤلفان سبب اختيار تلك الموضوعات والأفكار لكتابهما، وماذا يريدان منه للأجيال الناشئة التي ستقرأه وتؤمن به وتتخذه منهجًا ونبراسًا تسير عليه في حياتها فيما بعد.
ووجدتني أمسك الكتاب بعد أن قرأت فهرس موضوعاته السالفة، افتح المقدمة لأقرأها بتمعن؛ لأعرف ما الذي يريده الغرب من أبنائنا ونشئنا؟ وماذا يريدون ترسيخه في أذهانهم وعقولهم وأفئدتهم؟ وما الذي يريدون لنشئنا أن يسيروا عليه بعد؟ وإذا بي أجد المؤلفين يستهلون مقدمتهما بقصة صغيرة موجزة، توطئة وتمهيدًا لغرس ما يريدون غرسه من تلك الأفكار بعقول أطفالنا ونشئنا، فيقولان فيها: سألوا فتى في الثامنة من عمره عن عاداته الدراسية، فأجاب: "حسنا هناك مواد دراسية عادية، وهناك مواد دراسية مهمة، وأنا أحاول تذكر المواد المهمة فقط"، مستطردين: كان هذا الأسلوب يفلح معه، وهل تعلم هذا الأسلوب سيفلح معنا نحن أيضًا، فسواء كنت طالبًا في مدرسة ثانوية ـ وفي الجامعة، أو في الحياة، فستجد أن الكتب الدراسية مكتظة، وأن قائمة القراءات طويلة، كلمات كثيرة للغاية، ووقت ضيق للغاية، فما الذي يتعين على المرء فعله؟ أحضر قلم تمييز أصفر..... ما الذي تعتقد أنه سيكون موضوع السؤال في الامتحان؟ قم بتمييزه الآن لمراجعته بسهوله فيما بعد.
ويعرّف المؤلفان في مقدمتهما محتوى مؤلفهما قائلين: هذا الكتاب عبارة عن مجموعة من القصص والاقتباسات حول بعض أغلى موضوعات الحياة: أهمية التصرف بلطف وكرم وإحسان مع الآخرين، وتوطيد علاقات قوية راسخة مع الأشخاص الذين نحبهم، واختيار توجهات ذهنية تساعدنا أثناء عيش ساعات الحياة اليومية العادية، واكتشاف معنى الرضا والإشباع النابعين من تقدير المتع البسيطة والاستمتاع بها، إنها كلمات تجلب الهدوء، كلمات تجلب الشفاء، كلمات تقدم التشجيع وتحث على التغيير، وتكافئ على الجهد، نأمل أن تساعدك على العيش بحكمة والاختيار بذكاء، لذا قم بالقراءات المطلوبة، أنجز واجباتك، الصف منعقد دائمًا ونحن نتعرض للاختبار يوميًا.
ثم تركت الكتاب لأسأل ولدي عنه، ما الذي حملك على شرائه الآن؟ فأجابني أنه اشتراه منذ أن كان في المرحلة الثانوية بخمسة وعشرين جنيهًا، وأنه ليس الكتاب الوحيد الذي يقتنيه في ذلك، بل هناك العديد من الكتب الأخرى تصب في تلك الأفكار معه أيضًا، فكانت دهشتي أكبر من أن اقتناءه له ليس وليد اللحظة، بل منذ سنوات، ثم تركت ابني لأحدث نفسي جانبًا، سائلها متعجبًا، هل وصل بنا الحال أن يأخذ نشأنا وأطفالنا وشبابنا قيمهم ومبادئهم من الغرب وأفكاره؟
وهناك من يضع السم في العسل، ونحن نعلم يقينًا ما تكنه لنا العقلية الغربية بماديتها الطاغية، وحربها الفكرية، العقلية الاستعمارية المستعرة، التي استعاضت بها عن حربها لنا بالآلات والمعدات العسكرية الثقيلة، واحتلال البلاد، فأصبح احتلال عقول وأفئدة أطفالنا ونشئنا وشبابنا، أجدى وخير وسيلة الآن مما سبق، وهاهم ذا قد نجحوا بامتياز في ذلك، ولا أدل على تفوقهم باقتدار ما وصل إليه حال أطفالنا وشبابنا، ولننظر جميعًا إلى ما آل إليهم حالهم في الجامعات والمدارس والنوادي والشوارع، وما أصابهم من تغير فكرى وعقلي وسلوكي ومظهري، يندى له الجبين خجلًا، وإذا ما حاولت مناقشتهم في ذلك، يكون الرد حاضرًا ومجهزًا: "إنها أيامنا نعيشها كما عشتم أيامكم، هذه حرية شخصية طالما لا أؤذي أحدًا بها، وهل مظهري هو إللي هيعدل الحال، طب حلوا مشاكل البلد ومشاكلنا الأول، وبعدها كلمونا، هي جت علينا ووقفت".. وغيرها من الردود التي أراني أقف وغيري عاجزًا عن مواجهتها لتقصيرنا في حقهم جميعًا.
نعم الصورة ليست بتلك العتامة والضبابية كاحلة السوداء، فهناك من الجهود من يحاول أصحابها تعديلا للشأن والمسار الشبابي، لكنها جهود إما فردية، أو تحرث في البحر، أو تعمل في وادٍ، والشباب وقضاياهم واهتماماتهم الفكرية والعقلية والسلوكية في وادٍ آخر متنافر معها، ولا يجمعها جامع مكاني أو زماني.
ثم أعود موجهًا تساؤلي إلى كل الجهات المسئولة في بلادنا، التربوية والدينية والتعليمية والرياضية والتدريبية التنموية، أين أنتم من شبابنا وقضاياه الفكرية والسلوكية وغرس المبادئ الإسلامية المصرية الشرقية الرصينة فيه؟ خاصة إن كان هناك الكثير من المطالبات والنداءات بإعادة بناء الهوية والشخصية المصرية، وها أنا ذا أضم صوتي لهم مناديًا كل المسئولين والمفكرين والمصلحين الاجتماعيين، عجلوا من إعادة بناء الشخصية المصرية السوية، بدءًا من نشئنا وأطفالنا وشبابنا... والحديث فيه شجن كثير.. وله بقية بمشيئة الله وحوله وقوته.
[email protected]