Close ad

من منصات محاكم التفتيش.. إلى جماعات الحوار

13-12-2018 | 22:51

كلنا نعلم بثقافتنا المعرفية، أن الصيف في بلادنا يعتِّق السحيبات البيضاء والداكنة الحُبلى بالمطر؛ ليَهِبَهَا هدية لنهارات ومساءات الشتاء!

ولكننا لم نر تلك السحيبات الداكنة في سماء حياتنا السياسية والعقائدية والمجتمعية، والتي قد تحجب شمس الدفء عن الحراك السياسي لأصحاب الرأي والرؤى في مشكلاتنا وقضايانا، وتمنع أمطار الخير التي تساعد على إنبات جذور الحلول الإيجابية لكل مشكلاتنا وقضايانا المتفاقمة والمتشعبة، حتى باتت في تربة المجتمع كالسكاكين تحت أقدام ساكنيه، إلا في وجود شرذمة ممَّن يحاربون انبلاج الفَجْر لمنع ظهور الشمس في كل صباحٍ جديد؛ ويمتطون أحصنتهم وسيوفهم الخشبية "الدون كيشوتيَّة" لمحاربة طواحين الهواء! وكأنهم "يُرِيدُونَ أَن يُطْفِئُوا نُورَ اللَّهِ بِأَفْوَاهِهِمْ وَيَأْبَى اللَّهُ إِلَّا أَن يُتِمَّ نُورَهُ وَلَوْ كَرِهَ الْكَافِرُونَ" ( التوبة 32 .(

ولعل تلك الشرذمة تذكرنا بالأحداث الجسام التي مرت على طول تاريخ البشرية، والذين لم تختلف ممارساتهم القمعية الظالمة في كل العصور، بصرف النظر عن العقيدة أو الديانة التي يعتنقونها: مسيحية أم إسلامية، نورد الصارخ منها ـ على سبيل المثال لا الحصرـ بدءًا من محاكم التفتيش التي أقامتها الكنيسة الكاثوليكية في القرن الثاني عشر؛ والمكونة من "الجماعات السلفية المسيحية" لمحاكمة "الهراطقة" الذين اتهموا بالخروج على تعاليم السيد المسيح؛ أو ما يشبه محاكم التفتيش التي تألفت من عتاة السلفيين المسلمين ـ مثل جماعات الخوارج المنتشرة كالذباب في عصرنا ـ والتي راح ضحيتها "الحسين بن منصور الحلاَّج"، وهو شاعر ومتصوف من أصل فارسي، نال شهرة واسعة وأتباعًا كُثُر بوصفه معلمًا قبل أن يتورط بالدخول في معترك السياسة في البلاط العباسي، فأُعدم بعد التضييق عليه بتُهم دينية وسياسية.

ناهيك عما حدث بالسيناريو والسلوكيات نفسها؛ والاحتكام إلى حلقات سلسلة التكفير في الماضي القريب، بدايةً بما حدث مع الشيخ الجليل "على عبدالرازق" صاحب كتاب "الإسلام وأصول الحكم"؛ مرورًا بعملاق وعميد الأدب العربي الدكتور طه حسين، صاحب كتاب "في الأدب الجاهلي"، وصولاً إلى المفكر الكبير د.فرج فودة، والأديب الروائي نجيب محفوظ .

إذن هي لعبة السياسة في كل زمانٍ ومكان؛ للحفاظ على الحكم والسلطة والنفوذ في المقام الأول، قبل أن تكون دفاعًا عن التوجهات العقائدية وحماية التراث الديني، والاتجاه الأمثل إلى تنقيته بما يتفق ويتوافق مع مجريات العصر ومستحدثاته، والابتعاد عن عبادة "تفسير النصوص الوضعية" التي تستوجب ضرورة العكوف على تنقيتها من كل الترهات والشوائب المدسوسة عليه من الأدعياء المتاجرين بالأديان والمعتقدات، ومن حملة المباخر القابعين في الوصيد على عتبات بلاط السلاطين والحكام .

إن مواجهة الهجمات الشرسة في عصرنا الحالي على العلماء أصحاب الرأي والفكر المستنير، لا تأتي ـ ولن تأتي ـ بالحجب والمنع والمصادرة والقتل المعنوي؛ استجابة للمطالبين بالجمود والخمول وعدم إعمال العقل فيما يختص بالحياة الدنيا ومتطلباتها، فلكل عصرٍ متغيراته وأطروحاته التي تنبثق من خلال التجارب والمعاملات اليومية التي تفرز احتياجاتها؛ وهي بالتأكيد تتفق وطبيعة البشر في كل مرحلة من مراحل التقدم للعلم والتكنولوجيا، فأصحاب الأفكار الرجعية يتوهمون أن كل خطوة يكسبها "العلم" يخسرها "الدين"؛ ويظنون أن العلم يعبث في صلب الموروث الآتي من خلال سطور الكتب الصفراء التي وضعوها نصب أعينهم، وجعلوها في مرتبة القداسة التي لا يأتي إليها الباطل من أمامٍ أو من خلف، متناسين دعوة رسولنا الكريم إلى الاجتهاد بمقولته: "أنتم أدرى بشئون دنياكم".

ولن أذهب بكم بعيدًا.. فقد أوضح القرآن الكريم أن الجمود على تقاليد الآباء والأجداد؛ ورفض استخدام العقل في الحكم على الموروث من المبادئ والنصوص الوضعية؛ هي من سمات الطبقات التي تريد الحفاظ على مكتسباتها المادية والعينية؛ وما يتبعها من نفوذٍ وسُلطة تتحكم في "عباد الله الضعفاء"؛ إذ يقول المولى جل شأنه : "وَكَذَٰلِكَ مَا أَرْسَلْنَا مِن قَبْلِكَ فِي قَرْيَةٍ مِّن نَّذِيرٍ إِلَّا قَالَ مُتْرَفُوهَا إِنَّا وَجَدْنَا آبَاءَنَا عَلَىٰ أُمَّةٍ وَإِنَّا عَلَىٰ آثَارِهِم مُّقْتَدُونَ* قَالَ أَوَلَوْ جِئْتُكُم بِأَهْدَىٰ مِمَّا وَجَدتُّمْ عَلَيْهِ آبَاءَكُمْ ۖ قَالُوا إِنَّا بِمَا أُرْسِلْتُم بِهِ كَافِرُونَ" * (الزخرف 23/24 .(

إنني أدعو كل النخبة والصفوة من علمائنا المتخصصين والمستنيرين؛ إلى تكوين "جماعات الحوار" في كل جامعاتنا المصرية ومعاهدنا العلمية لإمكان مقارعة الحُجَّة بالحُجَّة ـ دون صدام ـ لتبيان الصحيح من المدسوس في الموروث من تراثنا العقائدي والفكري؛ بل يمكن تخصيص برامج حوارية على القنوات المرئية والمسموعة؛ وفتح المجال لكل الساعين إلى الاستزادة من العلم والمعرفة الصحيحة ممن لهم الباع الأكبر في مجال التنوير والتقدم .

ونحن بهذا سنغلق الأبواب أمام كل الأدعياء والمتاجرين بوهم التمسك بكل ما لا يتفق وطبيعة البشر في المجتمعات المعاصرة، مع ضرورة إعطاء حق الدولة وسلطتها في الحفاظ على الأمن المجتمعي؛ وتوفير الحماية لكل أصحاب الفكر ـ حتى المعارضين منهم ـ طالما لا يتسلطون ولا يستخدمون القوة الجبرية والقمعية في فرض آرائهم على المجتمع والدولة بكل الاحترام والمصداقية؛ ونبتعد بالشبهة عن العودة إلى منصات محاكم التفتيش؛ ولتضيء شمس المعرفة سماء حياتنا في كل اتجاه.

كلمات البحث
اقرأ أيضًا: