الفشل والعفن والركود مصير كل شيء ثابت لا يتحرك، ومن فضل الله علينا أن كل شيء من حولنا وبداخلنا يتغير، فثبات حالك يعني فشلك، والإنسان الطموح من يسعى إلى التغيير للأفضل، ومنع تجديد خلايا جسمك يعرضك للموت، وتوقف تدافع الأمواج يجعل مياه البحار والأنهار آسنة وعفنة، حتى المناحي الاقتصادية والسياسية في عالمنا، لا تعرف وتيرة واحدة وتتغير من عصر إلى عصر ومن مكان إلى مكان، وثبات الأمر يفقدك لذة الحياة وحتمًا سيقضي عليك، ولك أن تتخيل أن سنة التغيير واحدة من نعم الله عليك التي لا تعد ولا تحصى.
ولذا وجب عليك أن تقول بكامل إرادتك الحمد لله، وتحمده وتثني عليه لعظيم تشريفه أنه خلقك عبدًا له، وخصك عن سائر مخلوقاته بنعمة العقل التي لا تضاهيها قوة على الأرض في التدبير والتفكير، لتصل لعبادته طواعية منك لا قسرًا، ولهذا منحك حرية عبادتك له، وهذا مزيد من خصوصية فضله على الإنسان.
وقال تعالي: "فمن شاء فليؤمن ومن شاء فليكفر"، ولكي يتم نعمته عليك ويضاعف من تشريفك، يأمر الملائكة بالسجود لآدم عليه السلام تحية تقدير وتعظيم، ويوظف من الملائكة ما تحفظك بالنهار والليل، وليتحقق بذلك قوله تعالى: "ولقد كرمنا بني آدم"، ثم يجزل من عطائه ويسخر لك الكون لتنعم فيه ولتتدبر عظمته، وثانيًا: عليك أن تعلم أن الله غني عن عبادتك، فالملائكة من حول العرش تسبح بحمده، وما من شيء في السماء ولا في الأرض إلا يسبحه ويحمده، وحسبه ثناؤه على نفسه لنفسه في الأزل، كما قال سيد المرسلين: "لا أحصي ثناء عليك أنت كما أثنيت على نفسك".
وأنت في حياتك لا يمكنك الحصول على ما ترغبه بدون مقابل، ومنحك الله جميع نعمه بدون جهد منك، لعلمه بعجز الإنسان عن توفيرها لحياته، كشروق الشمس وغروبها وكسقوط المطر، كخروج الزرع بمختلف ألوانه من أرض واحدة ويسقى بماء واحد، أفلا يقتضي منا كل ما تقدم وجوب الحمد لرب العالمين، وزيادة من فضله علينا يبعث الأنبياء ليبين لنا منهاج عبادته، وليهدينا إلى الطريق المستقيم بعيدًا عن هوى العقل، ومن أجل ألا يطغى بعضنا على بعض، وعطاء ربك لا يقف عند هذا الحد، فلا يزال يعطي بسخاء، فقد أرسل رحمته المهداة ليبعث فينا مكارم الأخلاق، ومن رحمة الله التي يحمد عليها أنه ساوى في عطائه بالدنيا بين الكافر والمؤمن؛ لأن الله هو رب للجميع، ولكي تطمئن القلوب يبلغنا بأن رحمته سبقت غضبه، وأنه يقبل توبة عبده ولو جاء بتراب الأرض خطايا، ومن نعمة رحمته طبقًا لمعنى الحديث القدسي أن السموات والأرض والجبال تطلب من الله أن تهلك بني آدم لظلمه ولمنع شكره، فيأبى الله ويقول لهم دعوههم لو خلقتموهم لرحمتموهم، ومن الفضائل الأخرى لنعمة رحمته، أن العبد لا يدخل الجنة إلا بتغمده إياها، وهو ما ذكره نبينا "صلي الله عليه وسلم"، وسُئل حتى أنت يا رسول الله "فقال: حتى أنا"، لأن الكمال لا ينسب إلا لله.
ويتوج كل ما سبق من أسباب وجوب الحمد لله، أن الحمد لله في ذاتها نعمة لا بد من الثناء عليها، فحين تقول الحمد لله في صلاتك يذكرك الله فيمن عنده، ويقول حمدني عبدي فيزيده الله من فضله، ويقول رسولنا الحبيب: "أفضل الذكر.. لا إله إلا الله. وأفضل الدعاء ..الحمد لله".
ولعظمة الحمد لله كانت أول من نطق بها آدم "عليه السلام"، وهي أول آية في أم الكتاب، ومن كرم الله أنه جعلنا نشكره في كلمتين خفيفتين على اللسان ثقيلتين في الميزان، فلو ترك ربنا الحمد بلا تحديد لتفاوتت درجات الحمد بين الناس حسب قول الإمام الشيخ الشعراوي، لقالها كل شخص طبقًا لقدراته العقلية والعلمية على التعبير، فأراد أن يعدل بين عباده في القول، ويكافئ الجميع حسب يقين كل منهم، وقال المفسرون إنه شمل بكلمة الحمد لله كل صفاته تعالى رحمة بنا، حتى لا نقول تارة حمدًا باسم الوهاب وتارة أخرى حمدًا باسم القهار، ويحضرني هنا مثل عن عظمة نعمة الحمد ولله المثل الأعلى، فحين سأل رجل طاف بأمه حول الكعبة ابن عمر رضي الله عنهما أتراني جزيتها، فقال لا ولا بطلقة واحدة من طلقاتها حين الولادة، وهذا حال العبد في عنائه ليوافي عطاء أمه، فكيف بحال العبد في الحمد لخالقه، ولكن مجرد ذكره الحمد لله مخلصًا فقد حقق المقصد من خلقه.
email :[email protected]