عام هجري آخر شاء الله أن نودِّعه ويمضيه من أعمارنا، تقربنا فيه إلى ربنا العلي - سبحانه - بصنوف العبادات والأعمال الصالحة، فكان لنا في ميزان حسناتنا، واقترفنا فيه من الذنوب والمعاصي ما كان، فأحصاه الله علينا ونسيناه، وها هو ذا عام جديد آخر يهل علينا بعد أيام معدودات، نستشرف فيه الرجاء والأمل من الله، أن يجعله عام هداية، وطاعة، ونجاح، وفلاح، وتوفيق، وتحقيق لكل أمانينا، وتفريج لهمومنا، وفك لكروبنا.
وحادث الهجرة الشريفة كثيرًا، ودائمًا وأبدا ما تحدث فيه علماؤنا، مستخرجين منه الدروس والعبر والمواعظ، التي بها تكون معول بناء للأمة في حاضرهم ومستقبلهم، إذا ما أخذوا متأسين بها، سائرين عليها وعلى نهج نبينا قدوتنا الحبيب "صلى الله عليه وسلم"، وصحابته الكرام، وخير ما تحمله الهجرة، تلك المواقف التي بها يصل السالكون إلى مرادهم الرباني، الطريق المستقيم الموصل إلى جنات الخلد، في رفقة نبينا "صلى الله عليه وسلم"، وصحابته، والنبيين، والصديقين، والشهداء، والصالحين، وحسن أولئك رفيقا، ثم الجائزة الكبرى، شرف النظر إلى وجه العظيم - تبارك وتعالى - ورضاه فلا سخط هناك بعده قط.
مواقف ومواعظ وعبر كثيرة حوتها تلك الحادثة المباركة، لنبينا تاج رؤوسنا وصحابته الأجلاء، ما أحرانا أن نتعلمها ونأخذها مأخذ الجد والفعل في حياتنا، حتى ننعم بدنيانا وآخرتنا، نتذكر منها تضحية رسولنا ومغادرته حزينا لأحب بلاد الله إليه – مكة - في سبيل دعوته ورسالته، مودعها قائلا: (والله إنك لخير أرض الله، وأحب أرض الله إلى الله، ولولا أني أُخرجت منك ما خرجت)، ثم مدى إخلاصه لله، حينما رفض "صلى الله عليه وسلم" أخذ الراحلة من أبي بكر إلا بثمنها، وفي ذلك يقول بعض علمائنا: إن الهجرة عمل تعبدي فأراد النبي أن يحقق الإخلاص بأن تكون نفقة هجرته خالصة من ماله دون غيره.
ونتعلم منها أن يأخذ كل منا بجميع الأسباب الموصلة إلى هدفه وغايته، مقرنًا معها صدق اليقين والتوكل على الله، وأن نحسن تخطيط ما نصبو إليه، موظفين كل الطاقات في سبيل ذلك، يصدقني فعل رسولنا "صلى الله عليه وسلم" في حسن تخطيطه وبراعة اتخاذه بالأسباب، حينما أحسن الصديق الرفيق في رحلته، وحينما عُلفت الراحلة قبل الرحلة بأربعة أشهر وجهزت بسرية تامة، وحينما كُلف علي بن أبي طالب بالنوم في فراش النبي، تمويهًا على الكافرين، وحين جهزت أمنا عائشة وأختها أسماء زاد الراحلة والرحلة، وحينما يأتي الغلام الشاب عبدالله بن أبي بكر، لقريش فيسمع ويعي ما تقوله، ثم ينقل أخبارها للنبي والصديق في غار ثور، ليعرفا ما يدبر لهما بليل، ثم دور الراعي عامر بن فهيرة حين يسلك بقطيعه طريق الغار؛ ليزيل آثار الأقدام المؤدية إليه، ثم يسقي حبيبنا "صلى الله عليه وسلم" وصاحبه مِن لبن غنمه، ثم كمال التخطيط عند اتخاذ تاج رؤوسنا "صلى الله عليه وسلم" عبدالله بن أريقط المؤتمن، المتقن لعمله دليلا لتمام معرفته بالطريق برغم أنه مشرك.
ومن دروب الهجرة المباركة نتعلم أروع الأمثلة في الإيثار وحسن السعي على الرزق والكسب الحلال، دون اتكال على غيرنا، منتظرين أن تسقط علينا السماء ذهبًا وفضة، يعلمنا ذلك الصحابيان الأخوان الجليلان عبدالرحمن بن عوف وسعد بن الربيع، حينما قدم عبدالرحمن بن عوف فآخى النبي "صلى الله عليه وسلم" بينه وبين سعد بن الربيع الأنصاري، فعرض عليه أن يناصفه أهله وماله، فقال عبدالرحمن: بارك الله لك في أهلك ومالك، دلني على السوق، فخرج إلى السوق وتاجر حتى أصبح من أغنى أغنياء المدينة، يقول عبدالرحمن بن عوف: فلقد رأيتني ولو رفعت حجرًا لرجوت أن أصيب ذهبًا وفضة، فضرب لنا سعد بن الربيع أبلغ أمثلة الإيثار؛ وضرب لنا عبدالرحمن بن عوف أروع أمثلة العفة والأخذ بالأسباب والسعي من أجل الرزق.
ويحكى لنا الصحابي صهيب الرومي، كيف ضحى بكل ماله نصرة لدينه ولحاقًا بحبيبه "صلى الله عليه وسلم" لما أراد الهجرة، قال له كفار قريش: أتيتنا صعلوكًا حقيرًا، فكثر مالك عندنا، وبلغت الذي بلغت، ثم تريد أن تخرج بمالك ونفسك؟ والله لا يكون ذلك، فقال لهم صهيب: "أرأيتم إن جعلت لكم مالي، أتخلُّون سبيلي؟" قالوا: نعم، قال: "فإني قد جعلت لكم مالي"، فبلغ ذلك رسولَ الله "صلى الله عليه وسلَّم"، فأثنى عليه قائلا: ربح صهيب".
ليكن دروبنا - معاشر السالكين - في عامنا الجديد، هجرة للمعاصي والعصاة، ولتكن هجرتنا خالصة لله ورسوله، ولا ننسى صوم العاشر من محرم لقول النبي "صلى الله عليه وسلّم": " يكفر السنة الماضية".. وكل عام أنتم بخير.