ما أعظمها من أيام نعيشها الآن، رحمات وفيوضات ربانية كريمة يتجلى علينا فيها، الكل يتسابق في طاعته، حجيج الله في الأراضي المقدسة، بأداء مناسك وشعائر حجهم المبرور إن شاء الله، وعامة المسلمين ممن يعظمون شعائر الله ويتقربون له - سبحانه - بالطاعات المختلفة من صيام وذكر وصدقات.
والحج موسم عظيم تتجلى فيه معاني الوحدة الإسلامية المفقودة الآن، التي أمرنا بها المولي – عز وجل - في قوله: { وَأَطِيعُوا اللَّهَ وَرَسُولَهُ وَلَا تَنَازَعُوا فَتَفْشَلُوا وَتَذْهَبَ رِيحُكُمْ ۖ وَاصْبِرُوا ۚ إِنَّ اللَّهَ مَعَ الصَّابِرِينَ} (الأنفال:46)، وقوله تعالى: { وَاعْتَصِمُوا بِحَبْلِ اللَّهِ جَمِيعًا وَلَا تَفَرَّقُوا ۚ وَاذْكُرُوا نِعْمَتَ اللَّهِ عَلَيْكُمْ إِذْ كُنتُمْ أَعْدَاءً فَأَلَّفَ بَيْنَ قُلُوبِكُمْ فَأَصْبَحْتُم بِنِعْمَتِهِ إِخْوَانًا وَكُنتُمْ عَلَىٰ شَفَا حُفْرَةٍ مِّنَ النَّارِ فَأَنقَذَكُم مِّنْهَا ۗ كَذَٰلِكَ يُبَيِّنُ اللَّهُ لَكُمْ آيَاتِهِ لَعَلَّكُمْ تَهْتَدُونَ} آل عمران 103، والتي دعانا وأمرنا بها نبينا الحبيب.
وذلك فيما يرويه أبن مسعود: "كان رسول الله - صلى الله عليه وسلم - يمسح مناكبنا في الصلاة، ويقول: استووا ولا تختلفوا فتختلف قلوبكم"، و قوله: "إن ﷲ ﯾرﺿﻰ ﻟﻛم وﯾﻛره ﻟﻛم ﺛﻼﺛﺎ، ﻓﯾرﺿﻰ ﻟﻛم أن ﺗﻌﺑدوه وﻻ ﺗﺷرﻛوا ﺑﮫ ﺷﯾﺋًﺎ وأن ﺗﻌﺗﺻﻣوا ﺑﺣﺑل ﷲ ﺟﻣﯾﻌًﺎ وﻻ ﺗﻔرﻗوا، وﯾﻛره ﻟﻛم ﺛﻼﺛﺎ: ﻗﯾل وﻗﺎل، وﻛﺛرة اﻟﺳؤال، وإﺿﺎﻋﺔ اﻟﻣﺎل".
واذا كان الحج شاهدًا موسميًا حيًا على وحدة المسلمين في أبهى مظاهرها، حيث إذابة الفوارق وتلاشيها، ووحدة زمان ومكان ومناسك وهدف وغاية الفريضة، فالكل جاء من كل صوب وحدب، يلهجون بألسنة مختلفة بالدعاء والتضرع للرب الواحد الأحد، منيخين مطاياهم ببابه، رافعين أكف الضراعة إليه - عز وجل- راغبين في مغفرته طامعين في فضله ورضوانه، فما أحرانا أن نتلمس أسباب هذه الوحدة والاعتصام، التي يؤكدها المفكر الألماني رودي بارت بقوله: "جاء محمد بن عبد الله - صلي الله عليه وسلم - يبشر العرب والناس أجمعين، بدين جديد، ويدعو إلى القول بالله الواحد الأحد، كانت الشريعة في دعوته لا تختلف عن العقيدة أو الإيمان، وتتمتع مثلها بسلطة إلهية ملزمة، لا تضبط الأمور الدينية فحسب، بل أيضاً الأمور الدنيوية، وعندما قُبض النبي العربي - صلي الله عليه وسلم - كان قد انتهى من وضع نظام اجتماعي يسمو كثيرًا فوق النظام القبلي الذي كان عليه العرب قبل الإسلام، وصهرهم في وحدة قوية، وتمت للجزيرة العربية وحدة دينية متماسكة، لم تعرف مثلها من قبل.."
وما أحرانا وحقيق بنا أن نزيل ما ران على قلوبنا وأبصارنا مما يحيكه بنا الغرب، يقول المستشرق لورانس براون: "إذا اتحد المسلمون في إمبراطورية عربية أمكن أن يصبحوا لعنة على العالم وخطرًا، أما إذا بقوا متفرقين فإنهم يظلون حينئذٍ بلا وزن ولا تأثير".
ولأهمية وعظم الحج وما به من مشهد وحدوي فريد، نري أيضًا أحد كبار المستشرقين المبشرين يحذر قائلًا: "سيظل الإسلام في مصر صخرة عاتية تتحطم عليها محاولات التبشير؛ ما دام للإسلام هذه الدعائم الثلاث: القرآن الكريم، واجتماع الجمعة الأسبوعي، ومؤتمر الحج السنوي" !
وصدق نبينا المعصوم صلى الله عليه وسلم القائل منذ أكثر من 1400عام: "إِنَّهُمْ لَا يَحْسُدُونَا على شَيْءٍ كَمَا يَحْسُدُونَا على يَوْمِ الْجُمُعَةِ الَّتِي هَدَانَا اللَّهُ لَهَا وَضَلُّوا عَنْهَا، وَعَلَى الْقِبْلَةِ الَّتِي هَدَانَا اللَّهُ لَهَا وَضَلُّوا عَنْهَا، وَعَلَى قَوْلِنَا خَلْفَ الْإِمَامِ آمِينَ".
وفي الحج نتذكر ونتعلم التوكل على الله والأخذ بالأسباب، حين يسلم نبيا الله إبراهيم وإسماعيل أمرهما لله، في تنفيذ ما يأمرهما الله به من ذبح الابن الوحيد الحبيب، المنتظر من سنين، وحين تسلم السيدة المؤمنة هاجر أمرها إلى ربها، وتطلب العون منه وحده، فيأتيها المدد من الله بماء زمزم، شرابًا طهورًا لها ولرضيعها وللمسلمين عامة من خلفها، وحين يخرج الحاج من بيته معتمدًا على ربه متوكلاً عليه مفوضًا أمره إليه، ونتعلم من الحج التواضع والانكسار لله وحده، حين يخلع الحاج ملابسه ويلبس إزارًا ورداءً موحدًا.
وفي الحج نتذكر ونتعلم أيضًا الصبر على طاعة الله بأداء مناسك الحج من إحرام، ومبيت في منى، والمزدلفة، ووقوف بعرفة، ورمي جمرات، وذبح أضحية، وحلق، وطواف، وسعي، وتحلل.. وغيره من الأمور التي يتطلبها أداء الفريضة في صبر وتؤدة، والصبر على اجتناب الرفث والفسوق والجدال بالباطل، والصبر على مفارقة الأهل والأوطان، وتحمل التكاليف والنفقات طمعًا فيما عند الله من الثواب والخيرات؛ فقد قال تعالي ﴿ قُلْ إِنَّ رَبِّي يَبْسُطُ الرِّزْقَ لِمَن يَشَاءُ مِنْ عِبَادِهِ وَيَقْدِرُ لَهُ ۚ وَمَا أَنفَقْتُم مِّن شَيْءٍ فَهُوَ يُخْلِفُهُ ۖ وَهُوَ خَيْرُ الرَّازِقِينَ)، وصبر على المتاعب والمشقة البدنية في الرحلة المباركة.
دروس وعبر وعظات كثيرة يضيق بها المقام هنا، ولكنها كلمات للتذكرة والـتأسي، فهل نجعل موسم الحج انطلاقًا وهدفًا أسمى، وحاجة ملحة لوحدة الأمة واجتماع الكلمة؟ وهل نتدبر أخلاق ذلك الموسم العظيم؟ آمل ذلك.. وكل عام أنتم ومصرنا الحبيبة وسائر بلاد المسلمين بخير ويمن وبركة.