جميل أن نهتم بالطفولة والصبا..
وجميل أن نولي الشباب جل العناية..
لكن الذي ليس جميلًا أبدًا أن نهمل الذين وهن العظم منهم واشتعل الرأس شيبًا..
إنهم كبار السن الذين هم الأب والأم والجد والجدة وسواهم من ذوي القرابة والقربى..
يشغلني البحث عن أشواقهم وعذوبتهم وعذاباتهم فيما تبقى لهم من العمر.. كثيرًا ما يأنس القلب معهم ليستقطر رحيق تجاربهم.. ويستدعي من رؤاهم ما يعين.. ومن جدلياتهم مع الأيام الخالية ما يضيء اللحظة الراهنة في حياة الأجيال الجديدة المتحركة على الساحة لاسيما الشباب.. والسياق يستحضر الحكمة البالغة والبليغة (أواه لو عرف الشباب..وآه لو قدر المشيب)
كبار السن هم كبار المقام.. عركوا الحياة وغالبوها.. هزمتهم وهزموها..أتعبتهم وأتعبوها.. تبادلوا معها الحوار.. وجادلوها بشكل أو بآخر..
ضمتني جلسة مع ثلة منهم.. شفافية روح.. وصفاء رؤية.. وانشراح صدر.. وبراءة قلب.. و(طولة بال).. ونظرة ليس فيها مآرب..
لكن استوقفتني ومضة..
قل هي فضفضة..
قل هي همهمة من كان فارسًا..
قل هي صهيل لصاحب جواد تعارك مع الأيام..
قل هي باقة من الشجن الشفيف..
قل هي رجاء مغلف بالعزة من النفس العزيزة..
قل هي قطرة باردة في جو صحراوي عنيف لظمآن ينساب الماء أمامه زلالًا..
قل ما شئت.. توصيفًا لصاحب هذه التنهيدة في مجلس كنت به مشاركًا.. يقول محدثي:
هؤلاء فقدوا الكثير من حيوية الشباب وعافية الجسد ورونق الشكل ومجد المنصب وضجيج الحياة وصخب الدنيا.. فقدوا والديهم وفقدوا كثيرًا من رفقائهم، فقلوبهم جريحة ونفوسهم مطوية على الكثير من الأحزان.
الكلمة التي كانت لا تريحهم حال قوتهم الآن تجرحُهم والتي كانت تجرحهم الآن تذبحُهم..
لم يعودوا محور البيوت وبؤرة العائلة كما كانوا قبل.. قد يرقدون ولا ينامون، وقد يأكلون ولا يهضمون، وقد يضحكون، ولا يفرحون، وقد يوارون دمعتهم تحت بسمتهم.
يحتاجون من يسمع لحديثهم، ويأنس لكلامهم، ويبدو سعيدًا بوجودهم.. يحتاجون إلى بسمةٍ في وجوههم، وكلمة جميلة تطرق آذانهم، ويدًا حانية تمتد لأفواههم، وعقلاً لا يضيق برؤاهم.
يراوحون بين ذكريات ماضٍ ولى ويزداد بعدًا وبين آمال مستقبلٍ آتٍ وقد لا يجيء فلا يفوتك تقدير هذا..
حوائجهم أبعد من طعام وشراب وملبسٍ ودواء؛ بل وأهم من ذلك بكثير.. لديهم فراغ يحتاج عقلاء رحماء يملؤونه.. كبار السن: غادر بهم القطار محطة اللذة، وصاروا في صالة انتظار الرحيل... ينتظرون الداعي ليلبوه.
هذه الكلمات المعبأة بالمشاعر الصادقة، والمسكونة بالأحاسيس الصادرة عن واحد من من كبار السن كتبها وأرسلها، لا لشيء إلا لأن هذا مايحتاجونه منكم، لتكونوا بارين بهم، وتدخلون الجنة من أوسع أبوابها، فهم قريبون من الله دعاؤهم أقرب للقبول بإذنه... فاغتنم قبل نفاد الرصيد.. فهم أحوج من أطفالنا إلى التدليل، والاسترضاء، والعاطفة، والحنان، والرفق، والرحمة، والصبر، والسهر، والتضحية..
يؤلمهم بُعدُك عنهم، وانصرافُك من جوارهم، واشتغالُك بهاتفك في حضرتهم.
اجعلهم يعيشون أيامًا سعيدة، ولياليَ مشرقة ويختمون كتاب حياتهم بصفحات ماتعة من البر والسعادة حتى إذا خلا منهم المكان لا تصبح من النادمين.
هم كبار السن الآن، وسيذهبون وعما قليل ستكون أنت هذا الكبيرَ المسنَّ... فانظر ما أنت صانع وما أنت زارع !
كن العِوضَ عما فقدوا، وكن الربيعَ في خريف عمرهم.. وكن العُكّازَ فيما تبقى من أيامهم.
سلامٌ على كبارِ السن...
وسلامٌ على من يراعون كبارَ السن..
غير أن أحدنا قال ونحن نضع النقطة الأخيرة في سطر الجلسة الموقرة ذات الشجن الجميل والحزن الشفاف:
إنها المرحلة الملكية في عمر الإنسان منا
وللحديث عن هذه المرحلة لنا استقطار آخر في زمن عز فيه التحديق والتحقيق والتدقيق..