Close ad
28-6-2018 | 23:28

لم يكن غريبًا على الشعب المصري العتيد؛ والممتدة جذوره في التربة الإنسانية إلى أعمق الأعماق؛ أن يتغنَّى موسيقار الأجيال "محمد عبد الوهاب"ـ وفي عنفوان الاحتلال البريطاني لمصر ـ بأغنية "مين زيِّك عندي يا "خضرة" في الرقة يا غصن البان.. ما تجُودي عليّ بنظرة وأنا رايح في الميدان".

بكلمات شاعر غير مشهور اسمه "عبد المنصف محمود"، وكانت الإشارة ذات الدلالة الواضحة إلى "مصر الخضراء" أيام كانت سلة غذاء العالم؛ وتصدّر خيراتها إلى كل بقاع العالم.

ويقول عن مصر شاعرنا الرائع "عبدالفتاح مصطفى" في أغنية "ثوار" التي شدت بها كوكب الشرق "أم كلثوم": كان نهار الدنيا ما طلعش.. وهِنا عز النهار!، وليخرج ـ في عصرنا الحديث ـ من بين صفوفه أيضًا من يترجم عشق هذا الشعب لتراب أرضه؛ كما ترجمها الشاعر "صلاح جاهين" حين قال:

"على اسم مصر التاريخ يقدر يقُول ما شاء

أنا مصر عندي أحب وأجمل الأشياء

باحبَّهَا وهي مالكة الأرض شرق وغرب،

وباحبَّهَا وهي مرميَّة جريحة حرب

باحبَّهَا بعُنف وبرقَّة وعلى استحياء

واكرهها وألعن أبوها بعشق زي الداء،

واسيبها واطفش في درب وتبقى هيَّ ( ف ) درب،

وتلتفت تلاقيني جنبها في الكرب

والنبض ينفُض عروقي بألف نغمة وضرب"!

ولم يكن هذا العشق الأبدي من أبنائها وليد الصدفة؛ أو لمجرد الانتماء بحكم المواطنة والمعايشة على أرضها؛ وإنما كان.. لأن هذا البلد العظيم كما تقول كتب التاريخ ـ بتصرف ـ: "... أخذ اسمه من أحد أحفاد النبي "نوح" عليه السلام؛ وهو "مصرايم" بن بنصر بن حام بن نوح؛ الذي سكن مصر بعد الطوفان. أما "مصرايم" الذي سميت مصر باسمه، فكان له أربعة ابناء، هم قفط وأشمن وأتريب وصا. وترجع تسمية مدينتي قفط وأشمون إلى ابني مصرايم قفط وأشمن؛ لذلك فهما من أقدم مدن مصر مع منف..." .

ومع توالي العصور والأحقاب على الشعب المصري؛ والتي تراوحت بين فترة انهيار حقبة الخلافة العثمانية، وما أعقبها من الانتقال إلى الحقبة الاستعمارية بكل موبقاتها وشرورها؛ ومحاولة تهميش وتمييع الهويَّة المصرية بإذابتها في الكيانات الأخرى؛ تلك الكيانات التي امتلأت بها الأرض المصرية من كل حدبٍ وصوب، كان الفنان المصري الواعي ــ أديبًا وشاعرًا ونحاتًا ومسرحيًا وموسيقيًا ـ بحركة التاريخ؛ بالمرصاد لكل الهجمات على تراث أرضه وبشره، فلجأ إلى عامل التورية والإسقاط السياسي ـ هربًا من مطاردات العسس ـ باستخدام المعادلات الموضوعية والرمز في إبداعاته؛ ورأى هذا الفنان بعين العاشق المُحب؛ أن "مصر" بها كل البهاء والعزة والكرامة؛ وأنها "بهية" بكل ما في هذه الكلمة من معانٍ راقية نبيلة.

وخرج علينا الشاعر المسرحي "نجيب سرور" في ستينيات القرن الماضي؛ بمسرحيته الرائعة "ياسين وبهية"؛ وهي تدور حول قصة بسيطة، تطمح في أن تجيب عن السؤال المطروح في الموال الشعبي عمّن قتل "ياسين" وهو البطل الشعبي في عُرف الإحساس الجمعي؛ وهو الحامي الصائن لعِرض محبوبته "بهية" من الطامعين، ولذلك نجد أن نجيب سرور قد حدَّد قاتل ياسين الذي يسأل عنه الموّال الشعبي في لهفة: يا بهية وخبِّريني ع اللي قتل ياسين"؟ بعد أن فُجِعت خطيبته وحبيبته "بهية"، والجزم بأن (الباشا) الإقطاعي، المسيطر على الناحية هو الذي قتله؛ لأنه حرّك أهل القرية وقادهم لإحراق قصر الباشا انتقامًا لخطيبته وحبيبته "بهية" ـ وهي الرمز الأمثل لمصر الوطن ـ والتي كان زبانية القصر يسعون لإدخالها في هذا القصر حيث ينتظرها المصير المحتوم، من هتك العرض وثلم الشرف، وكانت هذه المحاولة هي الشرارة التي أشعلت نار الثورة الموجودة في قلوب أهل القرية ضد مظالم الإقطاع وقسوته وجبروته.

وتتوالى إبداعات الأدباء والشعراء في مصر المحروسة؛ بتعميق استخدام اسم "بهية" كُنية لها، وليسري هذا اللقب بين الجموع التي استراحت لهذا الوصف الذي يعلي قدرها ومكانتها؛ فهي "بهية" في جمالها وأرضها وزروعها وضروعها وخيراتها العميمة على كل قلوب الأبناء الشرفاء على أرضها.. فنجد عم "احمد فؤاد نجم" يدشن هذا الجمال برائعته":

مصر يا امَّة يا بهية/يا ام طرحة وجلابيَّة/الزمن شاب وانتي شابَّة

هوا رايح وانتِ جايَّة /جاية فوق الصعب ماشية/فات عليكِ ليل وميَّة

واحتمالك هوَّا هوُّا/وابتسامتك هيَّ هيَّ

تضحكي للصبح يصبح/بعد ليله ومغربيَّة

تطلع الشمس تلاقيكِ / معجبانيَّة وصبية

يا بهية!

ما أجملك أيتها البهية؛ وما أجمل عشاقك الشرفاء الأوفياء الأنقياء، فستظل مصرنا المحروسة هي الملجأ والملاذ، وليخرج من بين صفوفنا مَنْ لا يعشق هذا الوطن الذي علَّم العالم معنى التقدم والحضارة، وقد تمرض بعض الوقت وتصادف بعض العثرات؛ لكنها أبدًا.. لن تسقط ولن تموت بمشيئة الله!

حفظ الله لكِ جندكِ وحارسكِ الأمين "ياسين" من كيد أهل الشر وطمع الطامعين ومكائد المتنطعين اللهم آمين يا مصرنا المحروسة!

كلمات البحث
اقرأ أيضًا: