عبر مسيرة من العطاء الإسلامي الحضاري الفكري العلمي المتميز الفياض، تمتد إلى نصف قرن من الزمان، جاب خلالها أرجاء المعمورة، مسهمًا فيها بتعريف العالم بصحيح ديننا الإسلامي، مبرزًا الوجه الحضاري والمعرفي له، رابطًا بينه وبين القوانين الدولية الوضعية، كان حال ومآل فضيلة العلامة الراحل الدكتور جعفر عبدالسلام - رحمه الله - وريث الأنبياء، الذي وافته المنية في الحادي عشر من الشهر الجاري، عن عمر يناهز السبعة والسبعين عامًا، بعد أن صدق الله ما عاهده عليه، يقول ربنا: "قل هل يستوِي الذين يعلمون والذين لا يعلمون إنما يتذكر أولو الألباب".
عمل العلامة الدكتور جعفر عبدالسلام أستاذًا للقانون الدولي، ورئيسًا لقسم القانون الدولي بكلية الشريعة والقانون، ثم نائبًا لرئيس جامعة الأزهر، وأمينا عامًا لمؤسسة اقرأ الخيرية، ومديرًا لمركز الاقتصاد الإسلامي بجامعة الأزهر، ثم أمينًا عامًا لرابطة الجامعات الإسلامية، كما اختير عضوًا في لجنة تقنين الشريعة الإسلامية عام 1977م، ورئيسًا للجنة الفكر بالمجلس الأعلى للشئون الإسلامية، إضافة لشغله العديد من المهام العلمية التدريسية التي أسندت لفضيلته، وبرع وأبدع فيها إبداعًا منقطع النظير، مازالت تسجل نجاحاته تلك بحروف من ذهب في كل تلك الأماكن العلمية بشتى أنحاء العالم.
من علامات رسالته العلمية الدعوية النفيسة المضيئة أنه كان صاحب مشروع لإعادة بناء الأمة في مجالاتها الشتى، الحضارية والتربوية والاجتماعية والتشريعية والدستورية والسياسية والاقتصادية والإعلامية والتكنولوجية، كما أصدر مبدعًا ست سلاسل علمية، أنتجت نحو مائة مؤلف في الفكر الإسلامي، تضمنت تطوير التعليم الجامعي، ومواجهة تحدياته، كما نجح في إصدار سلسلة "التحديات التي تواجه الأمة الإسلامية" ووصل عدد هذه السلسلة الآن أكثر من عشرة مجلدات، وبعد أحداث الحادي عشر من سبتمبر عام 2001م، أصدر سلسلة " فكر المواجهة"، التي فتحت ملفات المشكلات والتحديات التي تواجه العالم الإسلامي، وعلاقته بالآخر والحوار، ووصلت هذه السلسلة الآن إلى ستة وعشرين مؤلفًا، كما أخرج سلسلة دراسات الأسرة، مسهما بذلك في نشر الإسلام ، وتوضيح حقيقته الناصعة، بتأصيله وتدريسه، وتأليفه لمؤلفات أثرت المكتبة العربية والإسلامية، مقارنًا بين الشريعة والقانون، واضعًا حلولاً شرعية لقضايا عديدة، مكونًا رأيًا عامًا نحو العمل الإسلامي وأهميته.
وعند توليه الأمانة العامة لرابطة الجامعات الإسلامية، أولى اهتمامًا واسعًا بمهمة تطوير الدراسات الإسلامية وتعميق الروابط بين الجامعات الإسلامية، فزادت عضوية الجامعات الإسلامية في عهده لتصبح 196 جامعة، وشارك من موقعه بها، في المؤتمرات والندوات التي نظمتها الرابطة في الغرب لشرح حقائق الإسلام والرد على الشبهات التي توجه إليه، واضعًا برامج علمية دقيقة لتطوير أداء الدعاة، خاصة الدعاة المتميزين الحاصلين على درجات الماجستير والدكتوراه، وفور تقلده مديرًا لمركز صالح كامل للاقتصاد الإسلامي بجامعة الأزهر لمدة تسعة أعوام كاملة، جعل منه منارة علمية للدراسات الإسلامية ولعلم الاقتصاد الإسلامي بشكل عام.
لم تكن مسيرته الدعوية غائبة عن مسيرته العلمية الأكاديمية، بل كانتا متلازمتين ومقترنتين ببعضهما، إذ قاد وفدًا أزهريًا سافر إلى الاتحاد السوفيتي في بداية استقلال جمهورياته الإسلامية، راصدًا أحوال المسلمين هناك، مقدمًا إلى القيادة المصرية ما تحتاجه هذه الجمهوريات المستقلة من منح وأعضاء هيئات تدريس، ونجح في تنفيذ هذه المتطلبات إلى حد كبير، كما قام بزيارة جمهورية النمسا، ملقيًا عدة محاضرات بجامعة فيينا، ونجح في توقيع اتفاق مع رئيسة الجامعة كريمسكى، لإنشاء أكاديمية فيينا للدراسات الإسلامية، التي أسهمت في نشر التعليم الإسلامي في وسط أوروبا، كما ساهم العلامة الدكتور جعفر عبدالسلام - رحمه الله- في فتح طريق واسع أمام العمل الإسلامي في إيطاليا، وأسهم مع جامعات فلورنسا، وجامعات روما "لاسبيتا و تورفرجاتا"، في التعريف بالإسلام ونشر الدعوة في إيطاليا، وفى أثناء عمله نائبًا لرئيس جامعة الأزهر قام بإنشاء شعب للدراسات الإسلامية يدرس الطالب المقررات باللغات الأجنبية "الإنجليزية- الفرنسية- الألمانية".
كما كان عاملاً رئيسًا في سبيل إقرار المصالحة في عدد من الدول العربية، باذلًا الكثير من وقته وجهده، كاتبًا بيده عدة وثائق لإقرار المصالحة في كل من ليبيا وسوريا واليمن وفلسطين وغيرها.
مسيرة عالمنا الجليل الدكتور جعفر عبدالسلام حافلة بالإنجازات الدعوية والعلمية والأكاديمية، ولن يكفى لعرضها مقال أو أكثر، ولكنه حقه على وعليكم قرائي الأحباب، أن يعرف القاصي والداني مكانة فارس الإسلام المعاصر هذا، وبرغم أنى التقيته في مؤتمرات وندوات سابقة، وتحدثت معه بشأن إجراء حوار مطول مع فضيلته، بكونه فارسًا وعلمًا من أعلام الفكر الإسلامي، وترحيبه وسعادته بذلك، إلا أن وتيرة العمل السادرة السريعة جدًا ومشاغل الحياة وسرعة دوران عجلتها، حالت دون إتمام هذا الحوار مع فضيلته، وهذا ما يحزنني، كثيرًا، ولكنها أقدار ومشيئة الله تعالى .
عالمنا الجليل نال من التكريم الدولي والمحلى ما لا يحصى عدده ، فاختير ضمن موسوعة أبرز الشخصِيات المصرِية التِي أصدرتها الهيئة العامة للاستعلامات، وكرمه الرئيس عبدالفتاح السيسي في الثاني والعشرين من ديسمبر 2015، بمنحه وسام العلوم والفنون من الطبقة الأولى، لجهوده العظيمة في خدمة الإسلام في احتفال وزارة الأوقاف بالمولد النبوي الشريف، كما كرمته الجمعية العربية للحضارة والفنون الإسلامية لجهوده التي تمتد لخمسين عامًا في إبراز الوجه الحضاري للإسلام وإثراء الفكر الإنساني، وخدمة قضايا الأمة، في احتفال كبير أقيم بمكتبة القاهرة الكبرى في 11 يونيو 2017م، ويشاء الله أن يكون اليوم نفسه من شهرنا وعامنا الجاري، يوم استرداد الله لوديعته، فرحمه الله وأنزله منازل الأبرار والشهداء جزاء ما قدم لأمته ودينه.