فرق بين أمة تنظر إلى ماضيها ولا تستطيع تجاوزه وبين أمة تنظر لمستقبلها وتبني حاضرها اعتمادًا على توقعاتها بشأن هذا المستقبل، فالمستقبل غدا علمًا شأنه شأن العلوم التي تحتكم إلى منهجيات واستراتيجيات علمية مقننة، وأصبحت ترسم له سيناريوهات تتحكم في توجهات الأمم ومصائرها، وتعد الطفولة هي الاهتمام الأكبر الذي تسعى الدول الواعية لتطبيق نتائج دراسات وعلوم المستقبل عليه، والتحكم في إعداده ليتمكن من التعامل مع ذلك المستقبل ومعطياته، وهو ما يتم تحقيقه الآن عبر وسائل عدة، منها التربية والمؤسسات التربوية، ومنها التحكم في صناعة مواكبة لمنجزات العصر والنتائج المستقبلية، ومنها توظيف الأدب بوصفه وسيطًا مثاليًا لتكوين وبناء ودعم الاتجاهات، وهي إحدى الدعائم الكبرى للتربية عامة (الاتجاهات – الميول – القيم – المعارف).
موضوعات مقترحة
وكما يحمل هذا المستقبل ذلك التفاؤل، فإنه - من منطلق لا ورود بلا أشواك - يحمل كذلك المخاوف، ويضع أمام البشرية تحديات مهمة تقتضي ضرورة وسرعة التصدي لها، والأمم التي تستطيع وضع السيناريوهات المستقبلية لهذه التحديات هي التي ستمتلك مصيرها، وستضع نفسها في سياق الحضارة، حيث ينقسم العالم الآن إلى قسمين فقط بين القوة والضعف.
وأدب الأطفال بوصفه مدخلاً أساسيًا من مداخل بناء شخصية المستقبل (الطفل) ووسيطًا من وسائط التربية والتنشئة، فإنه يواجه تحديات على مستوى الشكل تتعلق بأساليب الكتابة والمتغيرات التي طرأت على وسائط تقديمها، وتحديات على مستوى المضمون تتمثل في طبيعة الموضوعات التي يتناولها، أو يجب أن يتناولها، وطبيعة المتغيرات المعاصرة التي طرأت على شخصية الطفل، والنتائج التي توصلت إليها العلوم بشأن مراحل نموه النفسي وذكاءاته المتعددة ونتائح تشريح المخ واستكشاف وظائف ومهام مراكزه، وغيرها من نتائج الأبحاث والعلوم المعاصرة والمعلوماتية والتكنولوجي، ويمكن رصد هذه التحديات التي تواجه أدب الأطفال، سواء على مستوى المنتج، أو على مستوى الكتابة وآليات البناء، ومنها :
1- تحدي الغزو الثقافي:
فقد تحول مفهوم الثقافة من المعرفة إلى الإنتاج، وتحول مفهوم التعليم في غاياته الكبرى من سعيه نحو المعرفة أو طلبه من أجل العمل، إلى كونه سببًا أساسيًا في أن نكون، وفي أن نتعرف كيف نتعايش مع الآخرين، فبدون الوعي الثقافي والقدرة على الإنتاج فلا وجود للإنسان بمفهوم الثقافة المعاصر.
هذا التحول في مفاهيم المعرفة وتأهيل الأطفال لاستيعابها والتعايش مع معطياتها ومستجداتها يمثل تحديًا ؛ إذ إن المعرفة العلمية أو الإنسانية التي يمكن تقديمها للأطفال اليوم هي في ذاتها متغيرة وقابلة للتطور في وقت قصير، ومن ثم يتشكل السؤال: ماذا يمكن أن يقدم للأطفال من معارف، والمعارف قابلة للتطوير والتطور في زمن قصير، ومنه على سبيل المثال المعرفة الخاصة بالكمبيوتر والهاتف المحمول ووسائل الاتصال، وما يشبهها من علوم قد تتغير نتائجها ومعطياتها بين تأليف أدب الأطفال والوقت المستغرق لطباعتها أو إنتاجها في وسيط ما.
ويرتبط بالتحدي الثقافي كذلك تحدي تحول أدوات ووسائل الثقافة من الشفاهية والكتابية إلى الصورة والحركة والمالتيميديا (الوسائط المتعددة من صوت ولون وحركة)، واعتماد على التكنولوجيا متقدمة الصنع، مما يتطلب التحول في طبيعة الكتابة للأطفال، ووسائل التقديم، وسرعة استيعاب القيم المعاصرة، والتغيرات التي طرأت على الحياة في وسائل التربية، وطبيعة العلاقات الإنسانية ذاتها، وإقامة جسور التواصل بين التراث والمعاصرة، فلم يعد الأطفال مثلاً كما كانوا في الماضي يخافون الآباء ويهربون من مواجهتهم، وإنما أصبح أطفال اليوم يحاورون آباءهم ويتجادلون معهم، وكثيرًا ما تكون لهم الغلبة في الرأي، لأنهم يتحدثون بمنطق مقنع اكتسبوه من مشاهدة وسائل الإعلام المعاصر، وبالتالي يصبح من الضروري أن يكون سلوك الأطفال أبطال الحكايات متشابهًا مع سلوكهم في الحياة ؛ إذ من المهم تحقق عنصر الإقناع الفني والواقعي في آن واحد.
2 - تحدي التحول من المعرفة إلى المعلوماتية:
المعرفة هي امتلاك المعلومات، أما المعلوماتية فهي فهم وإنتاج المعلومات لا بطرق لغوية بالمفهوم الكلاسيكي للغة، وإنما بطرق رمزية تعتمد على الأرقام والرموز، كما هي الحال مع لغات البرمجة في مجال الكمبيوتر مثلاً. لقد كانت المعرفة هي الكنز الذي تسعى الشعوب إلى امتلاكه والمحافظة عليه بوصفه سرًا من أسرارها، أما اليوم فغدت المعرفة ملكًا للجميع، يتم الكشف عنها بسهولة، ويتم تبادلها وانتقالها بسرعة وسهولة، فشعار عصرنا انتقال المال من يد القلة إلى المعرفة في يد الكثرة.
وقد تغيرت القوانين التي تحكم المعرفة ذاتها بفعل خضوعها للمعلوماتية، فأصبح القانون الحاكم ينص على أن أي معرفة علمية لاتخضع للمعالجة الآلية فلابد أن يكون مصيرها الزوال.
من جهة أخرى فإن المعلوماتية تسعى نحو التقريب بين المجالات المعرفية المتباعدة ودمج التخصصات المختلفة وتقليل الفجوات بين مختلف العلوم، بمعنى النظر إلى المعرفة الإنسانية بوصفها كلاً متكاملاً ووحدة واحدة، فأصبح في الإمكان التقريب بين حالات الإنسان المزاجية والنفسية وبين علوم البرمجة الصناعية ومنها البرمجة العصبية والبرمجة المخية وغيرها، وهو ما سيفضي في نهايته إلى تذويب ثقافات في ثنايا ثقافة واحدة مهيمنة.
من هنا يواجه أدب الأطفال تحديًا مهمًا يتمثل في إشكالية المعرفة التي يجب تقديمها للأطفال. ووسائط تقديم هذه المعرفة.. فهل يكفي تقديم المعلومات لهم، وإن كان الأمر كذلك فما طبيعة المعلومات التي يجب تقديمها؟ هل تلك المنتمية إلى التراث أم إلى المعاصرة أم إلى المستقبل؟ وهل تلك المرتبطة بالمعرفة بمفهومها المعاصر الذي يتغير يوما بعد يوم أم المرتبطة بمفهومها المستقبلي الزاحف نحونا بسرعة والمتمثل في المعلوماتية والثورة الرقمية؟
وسنستكمل في مقالة تالية التحديات الأخرى التي تواجه الطفل العربي والكتابة الأدبية له.